محمد رشيد السعيدي
عليك أن ترتدي معطف المعرفة، وتعتمر قبعة التصوف، وتتكئ على عصى التواضع، أنظر الى الدنيا بما تتسع له عيناك، وقد تحتاج الى عيون أخرى للنظر اليها، إفسح مجالا في روحك للمتعة، وهيئ عقلك للدهشة! أنت في حقل مترامي الأطراف، أو في غابة استوائية مطيرة، مليئة بأنواع لا تحصى، من النباتات والحيوانات، بعضها غير معروف بعد.. أنت بحاجة الى كثير من الصبر والجهد والتأني، عليك منح كثير من وقتك للتأمل، عندما تدخل الى عالم دوستويفسكي، أنت في حضرة أبي الرواية العالمية، في حضرة مفكر وفيلسوف، اتخذ من الرواية وسيلة لتقديم فلسفته، وأنت أمام فلسفة بسيطة عميقة، بدون تناقض، هكذا، يحاول دوستويفسكي أن يرتدي مسوح نبي، يستعين بالمسيحية للتعبير عن الإنسانية، حتى وإن بدا ذا موقف من بعض أبطال رواياته، وإن كان اختراقه للنص واضحا ودائما، وإن كانت نصوصه تتميز بالطول الذي قد لا يناسب هذا العصر، لكنه سوف يكون قريبا من النفس، إذ انه يحاول جاهدا تبرير أخطاء أبطاله، غفرانها، وفتح أبواب الملكوت أمام أرواحهم الحائرة.. ربما يختار عن قصد أناسا مضطربين، متناقضين، وربما ليقول إن البشر هم هكذا، أخطاؤهم ظاهرة للعيان بوضوح، وبعضهم قريب من الشر، ويختار الى جوارهم، وربما بالتوازن معهم، أناسا يتميزون بالدعة والسماحة والهدوء، والابتعاد عن أخطائهم بعد الإقرار بها، ربما كان التدين سببا في أخلاقهم هذه، الأب زوسيما مثلا لذلك.
يبدو أن دوستويفسكي كان واعيا – عندما كان يكتب – لما يمرر من أفكار، وأساليب في الحوار، تقترب – هي الأساس الذي بنى عليه فرويد نظرياته – من التحليل النفسي، هكذا يتم الدخول الى الأعماق السحيقة في نفوس أبطاله، وربما يتم ذلك الدخول من خلال أكثر من شخصية، فيتبين أكثر من تحليل للشخصية الواحدة، كما أنه يهتم كثيرا بالبيئة الاجتماعية، وبالتنشئة، بالأخلاق والتضحية والخيانة، وبمفاهيم الشرف التقليدية، لكنه يحرص كثيرا على صناعة الشخصية المضطربة، المتناقضة، انه بعيد عن الشخصية (السوبرمانية)، فيكون بذلك أقرب الى الطبيعة الإنسانية، التي مازالت غامضة وعصية على معرفة أكناهها الشاسعة، يركّز على تناقضات شخوصه واضطراباتهم، ويحاول إيجاد مبررات لذلك، وهو إذ يورد بعض مشاهد العنف: القتل، والإهانة والإساءة، فإنه يجعلها مدانة، ومرفوضة، أو بعدم القدرة على مجابهتها، في حالة سمردياكوف الذي قتل كارامازوف الأب؛ فانتحر، أما الأخوان الآخران فقد جابها مصائر صعبة، وإن ظلت النهايات مفتوحة أمام ايفان وديمتري، على الرغم من الحكم بالأشغال الشاقة على الأول، بتهمة قتله أبيه، ومرض الثاني، وظلت النهاية مفتوحة أيضا أمام المرأتين المرتبطتين بعلاقات مضطربة مع الأخوين كارامازوف: كاترينا ايفانوفنا، وآجرافينا الكسندروفنا، لكنه جعل الابن الأصغر: الكسي كارامازوف شخصية طيبة، تسعى لسعادة الآخرين حسب الممكن، دخل الكسي الدير، رغبة في الرهبنة ربما، لكن معلمه الأب زوسيما، نصحه بالعودة الى الحياة ونزع ملابس الكهنوت، فعاد فعلا، وسعى لمساعدة أخويه، والمرأتين، وأبيه، ولمساعدة عدد آخر من شخوص الرواية، ربما كل من التقى بهم، هل اضطر هنا دوستويفسكي الى إضفاء صفات الملائكة على شخصية اليوشا؛ لتقديم نموذج الخير، بصورة سامية؟! لم يكن اليوشا سوبرمانا، لكنه كان متصفا بالكثير من الاطمئنان لشخصيته الوادعة الطيبة البعيدة عن الأطماع والشهوات الانسانية، وبرغبته وسعيه لمساعدة الآخرين، وإن لم يكن اليوشا سوبرمانا لكنه كان ملاكا، ربما سيعتبر ذلك من إبداعات دوستويفسكي المنتصر للإنسانية، انه يقدم دائما أمثلة على الشخصيات التي تخسر من نفسها لتساعد الآخرين بطرق مختلفة، مثل شخصية الأمير ميشيكين في رواية الأبله، وشخصية راسكولنيكوف في رواية الجريمة والعقاب، الذي اضطر الى القتل لإنقاذ حبيبته، مع ما يحتوي عليه هذا الأمر من تناقض.. لكن الذي ربما يخلو من التناقض هو الإخلاص المتميز من قبل دوستويفسكي لرسالته الإنسانية.
قد تكون قراءة الرواية المترجمة من خلال أفكارها ومواضيعها، وصيغتها، وبناء شخصياتها ومشاهدها، وانتقالاتها، وتوظيفها للمكان، وربما أشياء قليلة أخرى، ممكنة، لكن قراءتها لغويا، والاطمئنان الى النص من حيث التقسيمات والعنونة، ليس ممكنا؛ لأنها مترجمة، فلغتها – مهما بذل المترجم جهدا للبقاء ضمن لغة الكاتب – ليست لغة المؤلف بل هي لغة المترجم، ويمكن القول أن بعض المترجمين يمنحون أنفسهم حرية التصرف بلغة وطريقة تقديم النص، واختصاره أيضا، لذا فإن العناوين الموجودة على جميع الفصول والأبواب لا يمكن البت بعائديتها الى المؤلف أو المترجم، لكنها، وبافتراض عائديتها للمؤلف، عناوين لا علاقة لها بطريقة (تعدد الرواة) في تأليف الرواية، أما الذي وجده الناقد والمفكر باختين في روايات دوستويفسكي، فهو: التنوع في الشخصيات، والتعدد في وجهات النظر، وفي اللغات، مما لا يمكن الشعور به تماما، خاصة في النص المترجم، لكنه موجود بشكل ما، بسبب القدرات الفذة للمؤلف، والترجمة المتميزة، والمراجعة المتمكنة لهذا الطبعة من رواية الإخوة كارامازوف (الإخوة كارامازوف، فيدور دوستويفسكي، ترجمة: د. سامي الدروبي، مراجعة: د. أبو بكر يوسف، دار رادوغا – موسكو، 1988).
إن عناوين الفصول هي عناوين عامة، مثل عناوين الروايات أو القصص أو المسرحيات أو الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، هذه بعض منها: قصة أسرة صغيرة، والزواج الثاني وابنا الفراش الثاني، والمهرج العريق، والسيدة الضعيف إيمانها، ولماذا يجب أن يعيش هذا الرجل، واليوشا – أيضا – عنوان بإسم إحدى الشخصيات، أما الحكي فيقوم به راوٍ خارجي، ليس عليما فقط، إنما مخترِق للنص، يتحدث عن نفسه موضحا كتابته، وما سيترك، وأسباب ذلك، والانتقالات، كالاستباقات والاسترجاعات، فإن الراوي يوضحها بدقة الراوي الحقيقي، وأقصد بالراوي الحقيقي هو ذلك الشخص الذي يقوم بحكي الحكايات في المجالس، ويسمى (القصخون)، الموجود في التراث العراقي الى بدايات القرن العشرين، هذا هو نموذج الراوي في (الإخوة كارامازوف) وربما هو نفسه في أعماله السردية كلها.
إن ما ركز عليه باختين لدى دوستويفسكي هو سعة صدره ومؤلَّفه للشخوص كلهم؛ للتعبير عن آرائهم، وإعطائهم مساحة واسعة للكلام، وهو ما وُضِع تحت مصطلح الأصوات – لا يمكن الاطمئنان الى دقة ترجمته – الذي يُقصَد به هنا الشخصيات التي تستطيع التعبير عن رأيها بحرية، المختلف عن مصطلح الرواة، فالتفريق هنا بين مصطلح (تعدد الأصوات) المنسوب الى باختين، والمتواتر في النصوص النقدية العربية، وبين مصطلح (تعدد الرواة)، إن الأول يعني الشخصية التي تستطيع أن تعبِّر عن رأيها، وتتميز بطابع لغوي بيئي أو حرفي أو ثقافي بشكل عام، أما الثاني فيعني وجود أكثر من راوٍ للنص، وهم شخوص مشاركون فيه، ويمكن أن يتواجد معهم راوٍ خارجي.
«لتكن مشيئة الرب»، هكذا، مثلما وضعها دوستويفسكي عنوانا لأحد فصول الرواية، هكذا يبدو منهج دوستويفسكي في تفسير التاريخ، التفسير المثالي، أو بدقة: الديني، فشخصياته منسحقة تحت وطأة رغباتها، والأحوال الاجتماعية، وغالبا ما تبدو عاجزة عن اتخاذ الإجراءات التي توصلها الى برِّ السلامة، لكن المؤلف يحرص على إيجاد المبررات، وعلى جعل باب الغفران والرحمة مفتوحا باستمرار، في الحياة، ويدعو الإنسان الى العفو والحب والتواضع، وليس بعيدا عن هذه الرؤية التأليفية تواتر الحوارات العميقة بين شخوص الرواية، في موضوع الايمان، وهذا ما يصنفه باختين بالايديولوجيا، موضوع الايمان والإلحاد يأخذ حيزا ملموسا من الاهتمام، وتدور فيه حوارات مطولة، وثمة مساحة معقولة متاحة للشخصيات غير الأساسية في الرواية للتعبير عن أفكارها، المتعلقة بالإيمان والغيب والميتافيزيقيا، في حالات الفقر أو المرض، أو في الرزايا، وفي الموت أيضا، ثمة تفسير أخلاقي واضح مثلا في حالة نهاية كارامازوف الأب، وآخر أقل وضوحا ربما في حالة نهاية سمردياكوف، الذي ربما لم يأخذ دوره الذي يستحقه في الرواية، أما الاطمئنان الى الإرادة الإلهية فربما تتمثل في حالة الطفل ايليوشا، وحالة عائلته.. ربما يمكن القول أن دوستويفسكي الروائي العبقري هو مفكر متدين، يدعو الى الأخلاق، والالتزام بالتعاليم الدينية، واتخاذ العفو والسماح والحب خطوات في الطريق الانسانية، متمثلا طريق المسيح. من خلال هذه الميزة التي تظهر بقوة في (الإخوة كارامازوف)، وفي حالات مشابهة في رواياته الأخرى، صار دوستويفسكي مفكرا متدينا وفيلسوفا أخلاقيا، ونصيرا عظيما للإنسانية!!