-1-
لسيدنا الجدّ المعظم الراحل آية الله السيد علي الصدر ت(1960) كتابٌ أدبي تاريخي رائق أسماه (حقيبة الفوائد) ويقع في عدة أجزاء ..
وقد دوّن في هذا الكتاب مِنْ غُرر القصائد وجميل الحكايات والوقائع الشيء الكثير .
(وللحقيبة) أهمية استثنائية ، ذلك أنها حفظت لنا كثيراً من الأدب العالي لأعلام الاسرة ورجالها الافذاذ ، فضلاً عن غيرهم من كبار العلماء والأدباء ،ولولاها لضاع ذلك كلُّه …
-2-
وقد وقفتُ على ما كتبه السيدُ الجدّ – أعلى الله مقامه – وهو يمهّد لايراد قصيدة رائية رائعة لسيدي الوالد العلاّمة السيد محمد هادي الصدر –رضوان الله عليه – حيث قال :
ومن الأدب العالي ،
والنظم المشرق المتلالي ،
والشِعْر المُقدّرِ الغالي ،
هو ما نظمه ولدي الأعزّ أبو الحسن محمد الهادي وفقّه الله لكلّ خير ،
وأبعدهُ عن كل شرّ ، وأعانه على كلّ فضيلة ، وأخذ بيده الى كلّ مكرمة ، وأغناه عن التعرض الى مِنن الرجال ، وَفَسَحَ له الى العزّة واكتساب المعروف المجال، انه ولي التوفيق “
ولم تكن الكلمات التي قدّم بها السيد الجدّ – رضوان الله عليه – لقصيدة ابنه الهادي الاّ مزيجاً من الحبّ العميق المتغلغل في أعماق نفسه لولده ، وانعكاساً لمكانتِهِ الرفيعة في مضمار العلم والادب والعرفان ،
ولروحه الطاهرة التي تسبح في فضاء المكارم والاخلاق .
انّ روض الأبوة رائع الثمرات، ورائق المعطيات، ورافلٌ بالوان من الأشذاء والنفحات .
-3-
والآن حان الوقت لايراد قصيدةٍ للسيد الوالد – رضوان الله عليه- نظمها يوم ألمَّ بي المرض المُرهق المسمّى (بذات الرئة) والذي قرر الطيب معه الحاجة الى زَرْقنِا بالابر كل ثلاث ساعات ..!!
ثم اُصيب أخي (الحسن) بنفس الداء ، واحتاج الى نفس الدواء ووقف أبونا حائراً بين ما كان يعترينا من الألم بتزريقنا المتكرر بالابر،
وهذا ما يملأ قلبه بالشجن ، وبين الاستمرار في تنفيذ (وصفةِ) الطبيب للخلاص من الداء …
وفي غمرة هذه المعاناة كانت هذه القصيدة ، التي تعكس شاعريةً فذّة ، وأبوة حانية، تتلاطم فيها أمواج الحب، وتبلغ حدّ الاستعداد لبذل مهجته إنقاذاً لصغاره من مخالب المرض ..
إن قوافي القصيدة هي أوتار قلبه الكبير، وصدى عاطفته المشبوبة التي تجاوزت الحدود، وبقيت ترّن في اذن الزمن
قال :
يارب حسبك مِنْ صِغاري أنهم
يتضورون من الدواءِ وشِرْبِهِ
واذا أحسَّ مريضُهم بطبيبِهِ
قامتْ قيامتُه مخافةَ طبِهِ
فكأنَّ إبرتَه مخالبُ أطلسٍ
نشبتْ فطارَ فؤادُه مِنْ رعبِهِ
وتخالُه والذعرُ ملؤ إهابِهِ
كالظبيّ ترعبُه شراسةُ ذَئِبِهِ
يُولي الصراخ مولولاً من حَبّةٍ
ذابت بها لأبيهِ حبّةُ قلبِهِ
حيران ألتمسُ السبيل لمُنقذٍ
فاذا الفضاء يضيقُ فيّ بِرَحْبِهِ
مرضَ الحسينُ فقلتُ تلكَ مصيبةٌ
دهت الفؤادَ وهيجّت مِنْ كَرْبِهِ
واذا أخوه ينوءُ قرب سريره
مضنىً تساندُهُ سواعدُ صَحبْهِ
واذا بِلُبّيِ طائشٌ لا يرعوي
الاّ الاقامة والعكوف بِقُرْبِهِ
واذا بِجَفْنِي لا يلذ له الكرى
الاّ وجنبيَ لاصقٌ في جَنْبِهِ
ولكم شخصتُ بناظريّ الى السما
ورفعتُ كفي بالدعاءِ لربِهِ
ورجوتُ منه شفاءه مُستشْفِعاً
بمحمدٍ وبألِهِ وبحزبِهِ
وودتُ لو أفدي بُنيّ بمهجتي
فاكون قد أديتُ واجب حُبّهِ
انّ القصيدة من أرق الشعر وأعذبه، وهي مخضلة بعبير الحنان المتميّز ، والاشفاق الفريد على الابناء، وليتني كنت له الفداء …
نوّر الله ضريحه وغمر بلطفُه رُوحَهْ .
واتضح لك الآن انّ حديث (جدي) عن شاعرية (أبي) أصابَ به كبدَ الحقيقة ، ولم يكن مشتملاً على اية مبالغة …
-4-
وهناك مرض لا يقل خطراً عن (ذات الرئة) يسمّى (ذات الجنب) ، وقد أصبتُ به قبل أكثر من عقدين من الزمن،واستمرت الحمّى المرتفعة تطبخني بحرارتها العالية …،وآلامها المبرّحة، فكتبتُ هذه الرباعية
تعب الزئبق في المحرار من فرط الصعودْ
وتبدّى للورى عبر معاناتي الصمودْ
ليتَ شعري أهي (ذاتُ الجنب) أمْ ذاتُ الوقود
كلّما أطفأها الطبُّ تحدّتْ لتعودْ
اولئك آبائي
التعليقات مغلقة