يوسف مزاحم*
أن تحتفل غوغل بعيد ميلاد ابن رشد الثمانمائة وثمانية وثمانين بينما لا يحفلُ العرب به لأمر يندى له الجبين ولكنه ليس غريباً. وكما يقول نزار قباني: “ليس جديداً علينا اغتيال الصحابة والأولياء”، فليس من المستغرب أن يتم الاحتفاء بفنانين مراهقين في برامج تبيع المواهب لمن يشتري بينما يرقد ابن رشد في قبره أسفاً على ما أضاع من عمره في سبيل إحياء العقل في أمة ركبها الجنون لحظة قرر أحدهم أن “لا اجتهاد في موضع النص” وزاد آخرون باعتبار النص كلّ “ما خطّه الأولون”.
أمضى ابن رشد عمره وعانى كثيراً في الدفاع عن فكرة جوهرية تقول بتوافق العقل مع النقل، ولعل كتابه “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” يعد من أهم المراجع الفكرية الفلسفية في التاريخ العربي، حيث سعى ابن رشد لإثبات تنزه الشارعِ عن الجنون وبالتالي فلا مكان للأحكام اللاعقلانية في الدين والحياة. ومن المفهوم قيام حرب شرسة عليه وعلى أفكاره وكتبه نظراً لنزعه السيطرة الروحية لرجال الدين وقوله بتحكيم العقل عند تعارض النقل وهي مسائل شائكة اعتبرها الفقهاء والخلفاء على حد سواء خطراً يهدد مصالحهم ونفوذهم.
ينطلق ابن رشد في كتابه المذكور من رفض فكرة منع الكتب والرقابة عليها تحت مبرر الخوف على عقول الجمهور، ويقول في ذلك: “وليسَ يلزمُ مِن أنه إِن غوى غاوٍ بالنظر فيها (يقصد كتب الفلسفة)، وزلّ زالٌّ، إما من قبل نقص فطرته، وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلماً يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها، أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها.” ولا يزال ذلك من أكثر المبررات لدى الفقهاء والحكام لمنع الثقافة والفكر والفلسفة بذريعة “حماية الجماهير” و“وأد الفتنة”. ويسخر ابن رشد من هذه العقلية بقوله: “مثل من منع العطشان شربَ الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالغرق أمرٌ عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري.”
ليست نكبة ابن رشد أول حدث من نوعه في التاريخ العربي وليست الأخيرة كذلك، فمسلسل قمع الحريات الفكرية والسياسية والثقافية لا يزال مستمراً وبصور أبشع من العصور السابقة. كان الحقد الذي تعرض له ابن رشد من قبل معاصريه من الفقهاء كافياً لتأليب الخليفة المنصور الموحدي عليه وفرض الإقامة الجبرية عليه ومنع كتبه من التداول الشعبي والرسمي. ويرى الدكتور محمد عابد الجابري أن أسباباً سياسية تضاف إلى انقلاب الفقهاء على الفلسفة كانت وراء النكبة التي تعرّض لها ابن رشد.
جاء في المنشور الذي عمّمه الخليفة يعقوب المنصور من قرطبة على أرجاء مملكته: “وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، أقرّ لهم عوامّهم بشفوفٍ عليهم في الإفهام فخلدوا في العالم صحفاً مالها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق. بعدُها من الشريعة بعدَ المشرقين، وتباينُها تباينَ الثقلين. يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها. وهم يتشعبون في القضية فِرقاً. ويسيرون فيها شواكلَ وطرفاً. ذلكم بأن الله خلقهم للنار. وبعمل أهل النار يعملون ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلّونهم بغير علم. ألا ساء ما يزرون. ونشأ منهم في هذه السمحة البيضاء شياطين أنس يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يسفرون.” وفي هذه المقدمة ما يشي بما بعدها من تبرير لمحاكمة ابن رشد ومحاكمة كتبه، فالمنشور يتابع: “وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علماً وما زلنا – وصل الله كرامتكم- نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم من الله سبحانه ويدنيهم. فلما أراد الله فضيحة عمايتهم وكشف غوايتهم وقف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذَ كتابِ صاحبها بالشّمال، ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مصرّح بالإعراض عن الله، لُبس منها الإيمان بالظلم وجيء منها بالحرب الزبون في صورة السلم. مذلة للإقدام وسم يدب في باطن الظلام. أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة. فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونها بباطنهم وغيهم وبهتانهم. فلما وقفنا منهم على ما هو قذىً في جفن الدين ونكتة سوداء في صفحة النور المبين،.نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصى السفاء من الغواة. وأبغضناهم في الله كما أنا نحب المؤمنين في الله. وقلنا: اللهم إن دينك هو الحق اليقين وعبادك هم الموصوفون بالمتقين وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك فباعد أسفارهم، وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم. ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم والإيقاظ بحده من غفلتهم ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهوان ثم طُردوا عن رحمة الله لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وأنهم لكاذبون.” وهكذا رتّب كاتب المنشور مقدمات وحيثيات قراره الخطير: “فاحذرهم وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذركم من السموم السارية في الأبدان. ومن عثر على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار بها يعذب أربابه. وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه.ومتى عثر منهم على مجدٍ في غلوائه عمٍ عن سبيل استقامته واهتدائه، فليعاجل فيه بالتثقيف والتعريف ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تُنصرون، أولئك الذين أحبطت أعمالهم، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون. والله تعالى يطهّر من دنس الملحدين أصقاعَكم ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم. أنه منعم كريم.”
إذاً فقد تم الحكم على ابن رشد وفكره بالإعدام أحياء وبالتكفير وبحرق كتبه لا بل وحرق قرائه وكتبته، وهكذا سبق العرب أقرانهم الأوروبيين في مسألة التكفير وحرق الكتب عندما قام الإسبان بإحراق الكتب العربية في ساحات غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها تحت طائلة “التطهير” وتم إجبار العرب على تغيير ديانتهم ومنعهم من استعمال اللغة العربية في الكتابة والقراءة والحديث.
لقد كفر ابن رشد بالفعل بتغييب العقل، كفر بالجهل وعمى البصيرة ولم يقبل بالاستخفاف بعقول الناس. يرى ابن رشد أن العقل هو مصدر الحق وأن النقل لا يتعارض مع العقل والعكس صحيح لأن الشارع كما يقول منزّه عن الجنون وهو يقول في ذلك: “وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكأن الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس. فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي.” ويؤكد ابن رشد على ذلك بأن مسار العلم متواصل بمعنى استفادة المتأخرين من المتقدمين: “فبيّنٌ أنه إن كان لم يتقدم أحد ممن قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه، أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، حتى تكمل المعرفة به”، بل ويزيد ابن رشد على ذلك في سابقة تاريخية بين فقهاء المسلمين بضرورة الاستفادة من علوم الأقدمين سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم: “كما أنه عسير أن يستنبط واحد جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك، وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك. فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمَنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة. إن الآلة التي تصحّ بها التذكية ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المشارك مَن نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام.”
تبرز النصوص السابقة ريادة ابن رشد في الانفتاح العقلي والعلمي وكسر الحواجز الاجتماعية والفقهية التي حرّم بعضها الاستعانة بعلوم الأقدمين وحرّم غيرهم علوم الفلسفة من أساسها (كالغزالي وغيره)، بينما يرى ابن رشد أن لا تعارض بين الفلسفة والشريعة بل وأكثر من ذلك فكلاهما مكمّل للآخر، وهو يقول في ذلك: “وإذا كانت هذه الشريعة، حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنّا نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع.” فالفلسفة والشريعة هما أختان – لا بالنسب – بل بالرضاعة وترضعان من منبع واحد وهو الحق. والحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له وتسعيان، كما يقول محمد عابد الجابري، نحو غرض واحد هو “الفضيلة”. وفي هذا يقول ابن رشد: “فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذا كان مغزاهم كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها، وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية؛ فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله. وباب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة. وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى.”
ومن المسائل التي كان لابن رشد الريادة فيها موقفه من المرأة وتبوئها المناصب الهامة كالقضاء والحكم، وهو وإن كان شارحاً لأفلاطون ومدينته الفاضلة فإنه لم يعترض على كثير من آراء أفلاطون في مسألة المرأة، في حين تجاهل الفارابي هذه المسألة تماماً في كتابه “آراء أهل المدينة الفاضلة” فيما يبدو أنه موقف مساير للشرع الإسلامي الذي لديه بعض الحساسية تجاه ولاية المرأة. يقول ابن رشد في كتابه “جوامع سياسة أفلاطون” وهو من الكتب التي فُقد أصلها العربي: “”تختلف النساء عن الرجال في الدرجة، لا في الطبع. وهن أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما، ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان، كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض أمصار إفريقية على استعدادهن الشديد للحرب؛ وليس من الممتنع وصولُهن إلى الحكم في الجمهورية يشير إلى “جمهورية” أفلاطون“ويضيف:”وبالمثل، فبما أن بعض النساء ينشأن وهن على درجة من التفوق والفطنة فليس يمتنع أن يكون بينهن الفلاسفة والحكام. ولكن بما أن الناس دأبوا على الاعتقاد في أن هذا الصنف نادراً ما يوجد بينهن، فإن بعض الشرائع لا تقبل المرأة في منصب الإمامة، أعني الإمامة العظمى (أي الخلافة)“
ويعتبر موقف ابن رشد هذا وإن ساقه ضمن شرحه لأفلاطون موقفاً متقدماً في عصره الذي لم تكن قضية المرأة فيه مطروحة للنقاش العام أصلاً. وهو ما يضيف لريادته سهماً جديداً يجعله متقدماً حتى على أكثر المناصرين لحرية المرأة ومعادلتها للرجل.
وبالعودة إلى نكبة ابن رشد، فقد كانت نتيجة المرسوم الذي أصدره الخليفة المنصور الموحدي أن تم نفي ابن رشد إلى أليسانة وهي قرية قريبة من قرطبة بينما نفي آخرون إلى مناطق أخرى، وأمر الخليفة بإحراق كتب الفلسفة وعلوم الأوائل واستثنى منها كتب الطب والحساب والفلك.
ويرى الدكتور محمد عابد الجابري في معرض تحليله للأسباب الخفية وراء انقلاب الخليفة الموحدي على الفلسفة وعلومها أن أحد أهم هذه الأسباب كان تواصل ابن رشد مع يحيى والي قرطبة وهو أخو الخليفة المنصور الموحدي أثناء مرض الأخير وقيام يحيى بالدعوة لنفسه للخلافة في أثناء مرض أخيه، ولعله من أسباب نقمة الخليفة المنصور على ابن رشد وغيره من العلماء بعد شفائه من المرض، إضافة إلى غيرة عدد من الفقهاء والعلماء من مكانة ابن رشد فسعوا بتخريب علاقته مع الخليفة عبر تأويل كلامه في بعض كتبه وقاموا بعرض تلك النصوص على الخليفة واتهموه بالخروج على الشريعة”فقُرِئت في المجلس وتؤولت أغراضُها ومعانيها، وقواعدها ومبانيها، فخرجت عما دلت عليه أسوء مخرج.“كما جاء في كتاب”الذيل والتكملة“للمراكشي.
ورغم أن نكبة ابن رشد لم تدم طويلاً حيث عفا الخليفة المنصور عنه عام 595 هجرية (1198 ميلادية) إلا أنه توفي في نفس العام عن عمر خمسة وسبعين عاماً قضاها دفاعاً عن فكرة الحرية الإنسانية وعن مكانة العقل البشري وعن مكانة الفلسفة بين العلوم ودورها في المجتمع. كان ابن رشد بالفعل رائد العقلانية العربية بلا منازع إلا أنه دُفن حياً ولم يُعِد إحياءه إلا الأوروبيون بعد وفاته بأكثر من ثلاثة قرون على الأقل وكانت كتبه تُدرّس في الجامعات الأوروبية في الوقت الذي كان العرب يعيشون أحط عصورهم عبر تغييب العقل وتغليب النقل ومنع الاجتهاد.
من المؤسف أن يتذكر غوغل ابن رشد بينما ينساه أحفاده، ولكن الحقيقة لا تتغير: لا كرامة لنبي في وطنه. ولئن كنا نعيش اليوم أصعب ظروف التحول التاريخي في المنطقة العربية، إلا أننا أحوج ما نكون إلى إعادة إحياء فلسفة التنوير وريادة العقل الذي تم تحييده تماماً، ولئن كان الربيع العربي قد حمل بعضاً من بذور التغيير وأملاً في بناء مجتمع حر، غير أن الكثير من القوى الظلامية في الداخل والخارج لا تريد لهذا العقل العربي تحرراً لأنها تعرف أن يقظة هذا العقل تعرّي تلك القوى من جبروتها المزيف والمختبئ وراء عباءة الدين من جهة ووراء عباءة”المصالح العليا» من جهة أخرى.
لن ينسى التاريخ ابن رشد أمثاله بينما ذهب الظلاميون إلى مزبلة التاريخ، كما سيذهب أقرانهم عما قريب.
*عن موقع الأوان