د.ثائر العذاري
دار في الأسابيع الأخيرة، في الأوساط الثقافية العراقية وعلى صفحات الثقافة في الصحف، جدال ساخن حول الرواية العراقية وفيما إذا استطاعت أن تصل بإنجازها حدا يجعلها جديرة بمكانها في الرواية العربية، ابتدأت شرارته من مقال نشره أ.د.حسن سرحان في صحيفة عربية وكانت خلاصته عبارة (إن روايتنا ليست بخير)، فانقسم النقاد والكتاب على فريقين، فريق أيد الدكتور سرحان وفريق رأى أن ما قاله ظلم وقسوة،
ومع أني أرى أن ما كتبه د.حسن سرحان وكل ما دار بعد ذلك من جدال حالة صحية لأنها تتيح فرصة الوقوف والتأمل والفحص، غير أني أرى أن هناك خللا منهجيا في الحوار كله. فهل يمكن فعلا، من ناحية منهجية أن نجمع المنجز الروائي العراقي كله في سلة واحدة ثم نحكم عليه هكذا حكما واحدا باتا وقاطعا سواء أكان ذلك بالسلب أم بالإيجاب؟
لم يكن في العراق أبان حكم النظام الديكتاتوري قدرا كافيا من الحرية يتيح للثقافة العراقية أن تبلور اتجاهات فكرية واضحة، بل كانت كرها محض مؤسسة تابعة للنظام الذي لم يغادر وسيلة لإخضاعها وتسخيرها لخدمة توجهاته. وبعد انهيار النظام غداة الاحتلال الأمريكي، شعر المثقف العراقي بانعتاقه من ذلك القيد، لكنه في الوقت نفسه؛ شعر بالغربة، إذ لم يكن هناك منظومة ثقافية واضحة تستطيع استيعاب الجميع واتاحة الفرصة للاختلافات أن تتعايش، ومنذ ذلك اليوم تعيش الثقافة العراقية حالة البحث عن هذه المنظومة الغائبة التي يمكنها أن تكون حاضنة للجميع من غير أن تفرض عليهم حدودا إيديولوجية تقيدهم.
وليست الرواية بدعا من ذلك، فالروائي كغيره كان في هذا الوسط مثل نبتة برية، عليه أن ينمي قدراته وأفكاره معتمدا على نفسه ومن غير هدى يهديه، فضلا عن أن كلا منهم واقع تحت تأثير ثقافة إثنية أو دينية من تلك التي تكرست في المجتمع العراقي بعد الاحتلال، وسواء أعترف بضغطها أم لم يعترف فهو ليس بمنجى من أثرها في إبداعه، ونتيجة ذلك كله كان كل روائي نسيج وحده، لا يربطه رابط بمنظومة ثقافية جامعة، وهذا يصدق أكثر على أولئك الذين استهلوا مشوارهم الروائي بعد الاحتلال.
حاولت في الأيام الماضية إعادة النظر في عينة من الروايات العراقية الجديدة بحثا عن معيار واحد يمكن معايرتها به، ووجدت أن المشتركات التي يمكن تحديدها لا تتعدى الموضوعات والثيمات، أما من الناحية الفنية فلم يكن بالإمكان التعامل معها على أنها منتمية لنظام واحد.
نعلم أن هناك دراسات كبيرة أخذت عنوانات مثل الرواية الإنجليزية والرواية العربية والرواية المعاصرة وما شابه هذا كثير، غير أن كل هذه الدراسات لم تكن تهدف إلى الوصول إلى حكم نقدي، بل كانت باحثة عن سمات مشتركة يمكن أن تكون هوية عامة للروايات المدروسة، ولم أر يوما بقدر اطلاعي المحدود دراسة من هذا النوع تصل إلى حكم نقدي يفيد بأن الرواية الفلانية رديئة أو جيدة أو بخير أو ليست بخير. هذا في المجتمعات المستقرة، فكيف يكون الحال حين يكون الحديث عن بلد يناضل من أجل ترميم هويته الثقافية الوطنية نضالا شرسا يواجه من التحديات ما لم يشهد لها مثيلا من قبل؟
من هنا أرى أن القول أن الرواية العراقية بخير أو أنها ليست بخير قول ليس بالمنهجي وليس بالرصين وليس بالقاطع، وهو أقرب إلى الحكم الانطباعي.
لا شك أن هناك انجازات كبيرة حققها روائيون عراقيون في السنوات الأخيرة، تشهد بذلك الجوائز المختلفة والترشيحات لها وأسماء بعض الروائيين التي صارت معروفة في البلاد الأخرى، وأصبح لهم قراء عرب، ولكن هل هناك هيئة أو منظمة حكومية أو غير حكومية تستطيع الادعاء أنها أسهمت في هذا المنجز أو ساعدت عليه؟ إن الجواب بالنفي على هذا السؤال يكفي أن نقول أن أي روائي أنجز منجزا محترما إنما فعل ذلك بجهده الشخصي الخالص، ولأن الحال هذه فإن لكل روائي عراقي موارده الثقافية ومدخلاته الإبداعية الشخصية التي لا يمكن أن يشبه فيها غيره، والمؤكد أن المخرجات هي الأخرى لن تتشابه ولن نجد بينها ما يعتد به من المشتركات. فكيف يجوز لنا جمعها كلها في حكم واحد مطلق!؟