تنورة جينز بحجم وطن

سلام مكي
لعل أهم صفة في النص الأدبي، مهما كان جنسه، أن يكون ذا رسالة، وأن يقحم الكاتب بين سطوره الواقع المليء بالأسى والضياع. وإن جودة أي نص، بحسب بعض النقاد، تكون بما يحمله من همّ إنساني، وقدرة على استلال الفكرة من بين براثن الواقع المرهق، ليجعل منه علامة وصورة فوتوغرافية، لكن على شكل كلمات.
وجعل الواقع مادة للكتابة، خصوصا السردية، لا تخلو من صعوبة، فالكاتب يكون أمام لوحة جاهزة، وما عليه سوى نقلها على ورقة، تلك اللوحة هي الحادثة التي حصلت أمامه، وبراعة الكاتب، تبرز، حين يقوم بتأثيث تلك اللوحة، بتقنيات الكتابة، وتلوينها بألوان إبداعية، لتخرج نصا أدبيا، يسر القارئ. ولعل الكتابة السردية، هي النمط الأمثل والأنسب لاستيعاب الواقع، وترجمته على شكل نص أدبي رصين. فعلى الكاتب مسؤولية خلق نص أدبي مواز للنص الواقعي، حتى لا يكون مجرد نقل حرفي، خال من اللمسة الجمالية.
في مجموعة ” مآب عامر” التي تحمل عنوان ” تنورة جينز قصيرة”، نجد أن الكاتبة عمدت إلى إيهام القارئ بالعنوان، فهو يعطي فكرة مسبقة عن المجموعة، وهي أن نصوصها تحاكي أحلام فتاة في مقتبل العمر، تعيش يومها بكل هدوء وترتيب. همّها الوحيد، هو ارتداء الملابس، وتزيين وجهها، والعيش كما يحلو لها، دون النظر على قيود المجتمع.
ولكن بمجرد الدخول الى عتبة المجموعة والمتمثلة بالقصة الأولى “عبوة ماء”، يصدم بما تضمنته تلك القصة، فالقصة تمثل صورة حيّة، التقطتها الكاتبة من الواقع اليومي الذي يعيشه مئات الأطفال، الذين جعلت منهم الظروف روّادا للشوارع والأعمال المرهقة، بدلا من مقاعد الدراسة. هذه القصة، تحكي عن فتى، يعمل كجامع أجرة. ولصغر سنّه أن يديه، لا تستطيعان استيعاب الأموال التي يقوم بجمعها من الركّاب.
الكاتبة، عمدت الى ذكر تفاصيل دقيقة عن المشهد، ساردة مجموعة من التمثلات الشعبية والصور الواقعية التي ترافق حياته اليومية. كما أن لباسه البالي، وحذاءه الرياضي القديم، وبقايا صورة ” مسّي” توحي بأن هذا الفتى، مثله مثل أقرانه، يحلم بأن يكون رياضيا ذات يوم، وأنه يولي اهتماما خاصا بمتابعة نجوم الرياضة، كما يفعل الكثير ممن هم في سنّه، لكن الفرق أن ملابسه، لا تصلح حتى للمسح! لكن ظروفه أجبرته على لبسها. وأشارت الكاتبة الى نظرة الآخرين لهذا الفتى، فبين تجاهل وتعالٍ، مثل اعتذار المرأة عن إعطائه جرعة ماء، رغم أن قيمة قنينة الماء الواحدة لا تتجاوز 250 دينار فقط، والشاب الذي تجاهل الإجابة عن تساؤله، حين طالب بباقي الأجرة. وللأسف، لم يكن الزبائن وحدهم من يسخرون منه، بل حتى ربّ عمله أيضا: … فداس السائق بكل قوة على عتلة البنزين، وعاد ينظر الى الفتى بسخرية…
كما لم تنس، التذكير بأحلامه النائمة، رغم ضجيج واقعه، الملغم بشتى أنواع الألم والعذاب، أحلامه بأن يكون كأقرانه، طالب مدرسة: … تأمل الفتى مرور ثلاثة أولاد يحملون كتبهم المدرسية. وقفوا واتكأ أحدهم على سياج حجري واطئ، يحيط بشجيرة صغيرة، ليمسح الأتربة التي شوّهت سواد الحذاء. ترقب الفتى ابتعادهم، وقفز الى الشجيرة، أشرع يديه ليمسك بعبوة ماء بقي ربعها، فتحها على عجل، تجرع القليل منها.. وهنا تكمن ذروة السردية هذه، فالفتى/ البطل، طلب ماءً من امرأة تجلس في السيارة، إلا أنها اعتذرت عن إعطائه، بحجة أنها مريضة! رغم أن عبوة الماء لا قيمة مادية لها. لكنه طرد عطشه، ببقايا ماء، وجده خلف الطلاب! وكأن الفتى لا نصيب له من الحياة إلا الفتات!
حاولت الكاتبة هنا أن ترسل رسالة بأن ثمة طفولة، تحتضنها الشوارع أكثر من البيوت، طفولة تعيش على بقايا الآخرين، وتقول بأن لا أحد يلتفت لها، رغم أن الجميع معرض لنفس مصير وحياة البطل هذا. الكاتبة، أنهت القصة بعبارة: وحينما تتحرك الحافلة وتبتعد، يتمعن في وجوه الآخرين، وكأنه يبحث عن شيء ما… نهاية مفتوحة على مصراعيها، وكأن الكاتبة تريد القول أن البطل، سيبقى يبحث عن ذلك الشيء الذي لا يعرفه ما هو، وبحثه هذا لن ينتهي يوما ما.
القصة الثانية والتي تحمل ذات عنوان المجموعة، الفتاة، صاحبة التنورة الجينز القصيرة، ليست أفضل حالا من فتى جمع الأجرة. وأكتفي بالعبارة الأخيرة التي أنهت بها الكاتبة قصتها: كان الأطفال حولها يسخرون ضاحكين ومنتقصين منها. بقيت تبتسم لحياة ما، حياة تتمنى أن تعيشها بكل صخب.. نعم، هي الطفولة الضائعة، والأحلام التي لم تولد بعد، وحتى لو ولدت، فإنها ستكون مجرد كوابيس.. كانت تبتسم لحياة ما، تلك الحياة التي لا تعرف أصلا ماهي، لكنها تدرك أن هنالك حياة أخرى، تعيشها كما ينبغي.. وكذلك في بقية القصص، نجد أن ثمة خيطا مشتركا بينها، أمل مفقود، وضياع مشترك، يعيشه الأبطال. حتى بطلة قصة ” شارع” تلك الفتاة التي ترتدي بنطال جينز أبيض، وقوامها أنثوي ممتلئ، لم تكن أفضل حال، من غيرها، فهي قد عانت من فقدان كل شيء يجمعها مع حبيبها، حتى أنها لم تكمل يومها المفترض وهو اللقاء في المول. وقد أنهت الكاتبة بالحوار الأخير بينها وبين حبيبها: ــــــ جئت اليوم للحفاظ على ما تبقى. ردت بسخرية: لم يبق شيء…
لقد اختصرت فتاة الجينز، حكاية وطن، ترك أبناءه تحت رحمة الشارع والسخرية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة