أنور محمد
لا أتصوَّر فيلمًا سينمائيًا من دون رأسمال فكري. وفيلم «حكاية في دمشق» (إنتاج المؤسَّسة العامة للسينما في دمشق 2021، من سيناريو وحوار: سماح قتال، وديكور: أدهم مناوي، وموسيقى: طاهر مامللي، وتمثيل: غسان مسعود، لجين إسماعيل، رنا كرم، جيانا عنيد، غدير سليمان، إخراج: أحمد إبراهيم أحمد) ابتدأ بلقطةٍ افتتاحية لطفلة تمشي بين ألسنة لهب النار، كما لو أنَّها تخرج من وسطها الولادي في اتجاه التاريخ، لتقاضينا على ما فعلناه في دمشق في هذه الزلزلة.
الفيلم لم يُقاضِ أحدًا؛ بل كان أقرب إلى الفيلم الدعوي الذي يروِّج للسياحة، باعتبار دمشق مدينة قديمة ما تزال تخفق فيها روح الجمال في علاقات الناس الاجتماعية والاقتصادية، وما تزال تحافظ على الطراز المعماري الآسر بتكويناته الشرقية، بالفضاءات الزراعية والتجارية والصناعية والعمرانية المتراكبة المندمجة. فكاتبة السيناريو اختارت حانوتًا/ محلًا في وسط الأحياء القديمة لدمشق (باب شرقي) كمركز للنشاط الدرامي لحكاية رجل وجيه أدَّى دوره الممثِّل غسان مسعود، الذي فَقَدَ في عملية تفجير ابنته وحفيدته في هذه الحرب/ الزلزلة السورية التي صار عمرها أكثر من عشر سنوات.
هذا المحل/ المَركز الذي تديره لينا (الممثِّلة جيانا عنيد) لبيع ما يُعرف بالمشغولات اليدوية على أنَّها تحف شرقية، كما لو أنَّه محل يؤكِّد على راهنية المتعة الدمشقية/ السورية، التي لم تتخرَّب، ولم تفسدها الحرب، بل من منظارٍ آخر أرى أنَّ المؤلِّفة التي قادت المخرج، باعتباره مُنفِّذًا لسيناريو فيلمها «حكاية في دمشق»، تروِّج لثقافة المقاولات، والاستمتاع بجمال دمشق، فالحربُ من طبيعتها تدمير قيم الجمال، أكثر من أنَّها تطرح مشكلة نفسية، وليس مرضًا أصاب الشخصية الرئيسة (وجيه) في الفيلم من تأثيرات الحرب. المؤلِّفة، وكذا المُخرج، من خلال شخصيات الفيلم/ التمثيلية؛ يُجردان الفيلم من كلِّ قوَّة فعلية، إذ لم يدخلا معاناة الناس من ويلات الحرب، ويلات الحجارة/ العمارة التي تمَّ هدمها، باعتبار أنَّ الفيلم يصوِّر (جمال) دمشق، وجمال العلاقات الاجتماعية بين ناسها.
المُخرج يبدو حياديًا، فهو في رؤيته من خلال الكاميرا ـ آلة التصوير، لا يتدَّخل ولا يؤِّول ولا يذهب إلى تحقيق ذروة، أو ثمن، أو عشر، ذروة درامية. لا صدمات، لا فكرا نقديًا.
دمشق، أو أي مدينة منكوبة، في السينما، أو في المسرح، أو في الفنون عامة، وفي هذه الحرب الزلزلة، تحتاج إلى حلفاء، وإلى مدافعين عنها من الأدباء والفنانين ـ المثقفين، وليس إلى مُصابين بعاهات نفسية وأمراض عقلية. فدراما الفيلم لا نموُّ ولا تطوُّر ولا ديناميكية وصراعية فيها، وشخصياته هم ضحايا حرب، ضحايا الشر. فلينا لم تتزوَّج من زياد (الممثِّل لجين إسماعيل)، الذي يلاحق عمَّه والد زوجته وجيه المُصاب بمرض نفسي، والذي وجدَ في محل لينا ما يواسي وحدته، ويخفِّف من أزمته المرضية، إذ يشتغل في محلِّها عازف عود. زياد لم يدافع عن حياته العائلية كرجل يحتاج إلى امرأة، رغم أن علاقة عاطفية قامت بينه وبين لينا صاحبة محل المشغولات الشرقية، فالثوب الذي ألبسته الحرب إيَّاه رضي به. لم يقاوم، لقد استسلم، حتى أنَّه لم يثأر؛ إِنْ لم يكن لزوجته، فلابنته، واللتين قضتا بانفجار في دمشق. ربَّما تكون الموسيقى التصويرية لطاهر مامللي على آلة العود نصًّا سرديًا أكثر تأثيرًا، وأكثر تأزيمًا للمُشاهِد، فقد كانت صوتًا سرديًا يُعقِّب، يتعاقب، تتعاقبُ فيه اللحظات؛ بل كان، وعلى مدار زمن الفيلم يُشكِّلُ تداعياتٍ اجتماعية وتاريخية وثقافية. فبعدما ماتت الزوجة وابنتها، لا ترقُّب لموتٍ تالٍ. خلص الموت. فيما الحرب الزلزلة مستمرة. شخصيتان عاطلتان؛ الجدُّ وجيه، والأب زياد، شخصيتان تعطَّلت قوى الحياة في أعماقهما. لا أحد يسير إلى الموت، ولا أحد يدفع عنه الموت. الموت هو الذي جاء إلى الفيلم. ولا أحد يحمل أو يتحمَّل وطأته.
في النهاية، كسر الجد «وجيه» العود، وانطفأ حماسه واندفاعه للحياة ولاذ بالصمت. أما زياد فأعرض عن حبه للينا، صاحبة محل الأشغال اليدوية من القش وخيوط الصوف والقطن على أنَّها تُحَف!! تعلُّق لينا ببيتها ومحلها رمز للصمود! أم هروبٌ من المواجهة الفيزيائية والبيسكيولوجية والعاطفية والجسدية مع الآخر، كان خصمًا أو عدوًا، ما يكشفُ عن شخصياتٍ مهزوزةٍ ومضطربةٍ غير متماسكةٍ، وسلوكياتها متصدِّعة. لقد صمتَتْ، سكتتْ، ولم يتوصل أيٌّ منها إلى الولادة، إلى ذاكَ اللهبِ الذي بدا زائفًا في مُفتتح الفيلم، وإِنْ كان يرمزُ إلى القوَّة والانتقام.
- عن ضفة ثالثة