د. عمار ابراهيم الياسري
سعت سرديّات ما بعد الحداثة إلى تقويض الخطابات الكبرى ومحاكاة اليومي والمهمش والمهمل من جهة والانفتاح على توظيف الأنسنة والأسطرة والعجائبيّ من جهة أخرى، ولم تكتف بالمفاهيم التقويضية؛ بل سعت إلى تقويض الزمن بمختلف تمثلاثه في الحداثة السردية سواء كان فيزيائيا أم مركبا على أنساق سردية مخالفة للمألوف مثل السرود الدائرية والمتداخلة والمتناوبة والمتوازية، إذ يتشكل الزمن في سرديات ما بعد الحداثة على شكل شذرات متناثرة وهجينة، أي تزامن سرد حدثين أو أكثر في أماكن متنوعة من دون أي تحول بنيوي في تموقعات السارد أو فصول الحكاية.
ونصوص القاصّة زينب الأسديّ في مجموعتها تيه الورد تعدّ من تلك السرديّات، إذ لم تخلُ من توظيف العجائبي والأسطوري والمتخيل بطريقة معاصرة، أي أنّها تفكّك النص المتداول ثمّ تعيد تشكيله ببنية معاصرة وهي تقانة تقترب إلى حدّ ما مع طروحات (ستيفن غرينبلات) رائد التاريخانيّة الجديدة مثلما وظّفت ذلك في نصوص مثل تراتيل معطّلة وذبول المسافات وزغاريد ملثّمة، ولم تكتف القاصّة بذلك بل وظّفت طروحات ما بعد الحداثة التي نظر لها (هيدجر) و(نيتشه) حينما جعلا من المهمل والمهمش والقابع على حوافّ التحقير بنية ثائرة توجّه ضرباتها نحو المتسيّد لتزيحه من مركزيّته وتتسيّد مكانه، وهذا ما بدا واضحًا في نصوص مثل مذاق باهت وتيه الورد وبوح القرنفل.
ولو تابعنا قصة تراتيل معطلة نلحظ أن عتبتها تشي بتقويض مفهومي قوامه الوجود والعدم، فالتراتيل المرتبطة بالانتظام اصبحت مع التداول مرتبطة بالأصوات سواء كانت الدينية أم الوطنية وما إلى ذلك، ثم نلحظ أن التراتيل ذات الشياع الجمعي أصيبت العطب، والسؤال الذي يتبادر ما السبب الذي جعل هذه التراتيل معطلة؟ ومع تطور الأحداث يستطيع القارئ النموذجي فك شفرة العتبة على الرغم من التداخل ما بين الأسطوري والواقعي والتشظي الزمني، ومع المهادات الأولى نلحظ أن المدخل الاستهلالي للقصة يصف لنا التلال الملتوية التي تسور المكان الذي يقطنه الراهب والجندي ثم تطالعنا حوارية تشي بمعرفة سابقة بينهما بعدها ينتقل السرد إلى الزمن الحاضر من دون تمهيد، إذ يخبرنا السارد أن الحكاية السابقة كانت لأبي جابر الذي كان سارد الحكايات الغابرة للعائلة، وهنا نلحظ التحول الأول ما بين الأسطوري رفقة السارد (أبو جابر) نحو الواقعي رفقة السارد المشارك الذي بدأ لنا بتشكيل شخصية (أبو جابر)، إذ يقول في الصفحة التاسعة والثلاثين « تميز هيأته وقار وطيبة أصيلة وفي لحيته الأنيقة قليل الشعر الأبيض الذي أجتاح سوادها الصامت «، فالمتحول السردي هنا قطع لنا أوصال الحكاية ما بين الحدثين والشخصيتين، لقد ركب لنا السارد المشارك الشخصية على أنها صادقة نبيلة وقد تبين ذلك حينما قفزت الأحداث الواقعية إلى المدخل الأسطوري على لسان (أبو جابر) وحكاية الراهب مرة أخرى في تحول ثان وثالث، وفي ذروة الأحداث عمدت القاصة إلى بث المدخل الاستهلالي لحكاية الراهب وهنا يقع على المتلقي النموذجي قص هذه الشفرة الهجينة وإرجاعها إلى مستهل القصة من أجل تركيب شذرات الحكاية، ومن دون أي استراحة تقفز بنا القاصة نحو زمن حاضر أخر متعلق بالشيخ (صابر) أمام جامع حي رمضان الذي ينتقد السلطات في تناص داخلي مع حكاية الراهب وهنا بانت ظلال الشفرات المتشابهة في النص وفكت شفرة العتبة فالسلطات القهرية التي تسطر على الفكر الجمعي في الماضي والحاضر تعمل على تعليب الفكر الانساني ضمن مفاهيمها السلطوية، وكذلك لاحظنا القراءة التاريخانية المعاصرة للأسطورة والتداخل ما بين الاسطوري والواقعي فضلا عن التحولات البنيوية للتراكيب السردية المتداخلة على شكل جذاذات سردية يقع على المتلقي النموذجي حيف تركيبها.
ولم تختلف قصة مذاق باهت التي تسجل لنا يوما من حياة بائع الزبيب عن قصص المجموعة في محاكاتها لنصوص مهمش ما بعد الحداثة، فالبطل (أبو صبحي) هيمن على بنية الحدث على الرغم من البداية التي كانت عن طريق السارد المشارك طالب المدرسة الذي فتح المستهل بقوله في الصفحة الخامسة « نظرت إليه نظرة عابرة دون اكتراث، كان يقف كعادته في الجزرة الوسطية قرب إعدادية اليرموك المتربعة على فسحة واسعة قرب حي التعاون «، فالمستهل القصصي همش البطل العجوز بائع العصير (ابو صبحي) حينما وظف مفردات مثل (دون أكتراث، متربعة) أمام حضورية الطالب ومركزية المدرسة، لكن الشخصية المهمشة سيطرت على حركية القص حينما خرجت الطالب من المدرسة طالبا شراب الزبيب المنعش، إذ يقول في الصفحة السابعة « عند انتهاء الدوام خرجتُ أجرّ الخُطى قاصدًا أبا صبحيّ، الرجل العجوز بهيئته العظميّة الضامرة وسرواله الفضفاض « هنا تلاشى المكان لصالح الرجل العجوز الذي وصف بهيئته العظميّة ثم يشهد المكان تحولا من المدرسة إلى الدائرة الحكومية لكن عربة العجوز كانت المحور الذي شيد عليه المكان، بمعنى أن المكان المحيط بها ماض على حركيتها، وهنا يتجلى الصراع في أبهى تمثلاته بين حضورية العجوز والعربة وطبقية الانسان حينما أعطت أحدى النساء العصير للكلب الذي يرافقها ولم يختلف الحال مع العجوزين حينما رفضا شراب العصير بسبب مرض السكري والطفل الذي اراد منه الماء دون العصير، ومع شمس الغروب تهاوت العربة وسقط منها العصير ليقتات عليه النمل في النهاية وسط ابتسامة ساخرة تشي باغتراب وجودي كبير، فمذاق الزبيب أصابه العطب ليصبح باهتا بسبب نسق الاستهلاك الذي صادر الوجود الإنساني، فالآلة مسخت الوجود لكن القاصة قوضت الممكننة لصالح الشخصية المهمشة التي حاقت السرد.
إن تنوع الأشكال في قصص المجموعة يشي بمقدرة في المعالجات القصصية ما يجعل المتلقي يتماهى مع بنية السرد، فالتكرار السردي المتشابه يكسر زمن الإدراك في ذهن المتلقي وهنا تحدث القطيعة ما بين الناص والنص والمنصوص له، تيه الورد من التجارب القصصيّة المهمّة مبنى ومعنى وتبشّر بمخيال سرديّ ستكون له نصوص مختلفة في قابل الأيّام، فالوعي في صيرورة مستمرّة لا يرزح للثابت لو أراد الفرادة والتميّز.