الغالب والمغلوب !

محمد زكي ابراهيم

تحدث كثير من علماء الاجتماع عن ولع المغلوب بمحاكاة الغالب، وإعجابه  بأسلوب حياته، وافتتانه بعاداته، وانقياده إلى طريقة تفكيره. وقالوا أن آثار الاستعمار لا تنتهي بانتهائه، ولا تزول بزواله. فالطموح الأول للمغلوب هو أن يصبح متساوياً بالغالب لدرجة الفناء فيه.

أكثر ما تصدق هذه المقولة على علاقة العربي بالآخر الغربي، الناجمة عن ظاهرة الاستعمار، فمازال مركب النقص أمام الرجل الأبيض قائماً بعد نصف قرن على انحسار هذه الظاهرة. ومازال الطلبة العرب يتوافدون على جامعات الغرب للدراسة فيها، ويعودون متوجين بألقابهم العلمية، حاملين في داخلهم الانبهار الشديد بفكر وخطاب وسلوك المستعمر السابق. ومن أغرب الفروع التي كان الطلبة يوفدون للالتحاق بها أقسام اللغة العربية، التي يشرف عليها  مستشرقون تعلموا العربية، وأتقنوها، وألموا بفنونها على امتداد  سنوات طويلة.

ولا تكمن أهمية هؤلاء المستشرقين بمعرفتهم الواسعة باللغة، بل بالمناهج النقدية التي يزرعونها في نفوس الطلبة، لحملهم على التسليم بتفوق الغرب، والإذعان لعبقريته. حتى بات من الشائع لديهم أن العقل العربي مبني على الإيمان بالغيبيات ، في مقابل الغربي المفتون بالمادة.

ومن الغريب أن الطلبة العائدين كانوا يتباهون بتلمذتهم على أشخاص مثل جب وماركليوث وباشلار وماسينيون وسواهم من المشهورين. ويتعالون على سواهم، ممن لم يحظوا بهذه الميزة . ولأن الأدب وثيق الصلة بالتاريخ السياسي، والصراعات المذهبية، والثورات الاجتماعية، فقد كان لهؤلاء المستشرقين باع طويل في غربلة وتمحيص التاريخ الإسلامي وفك شفرة الخلافات التي قادت إلى نشوء الدول والإمارات والحركات الفكرية. وكان أن أخذ المسلمون هذه الكتابات على أنها مسلمات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

وفي الواقع لم يتسلل الفكر الغربي إلى العرب عبر الفلسفة أو الدين أو الحملات العسكرية بل نفذ في المقام الأول من خلال الأدب. فالأخير هو أفضل وسيلة لفهم المجتمع، لأنه يكشف عن المسرات والأوجاع، والمحاسن والمساوئ. وهذا ما جعل كبار الأدباء العرب رموزاً نهضوية كبرى لا تقل خطراً عن أساتذة العلوم والهندسة والطب الذين أدخلوا المناهج العلمية في الجامعات. أما الحوادث التأريخية التي جرت عند تغلغل الاستعمار فقد كتبها المحتلون أنفسهم، وتبنتها المناهج الدراسية والأوساط العلمية الوطنية. فمصادر التاريخ الحديث في العراق مثلاً كتبت بأقلام المس بيل وأرنولد ويلسون ولونغريغ وفيلبي وآخرين. وهؤلاء هم موظفون في جيش الاحتلال البريطاني. وفي الغالب بقي تفكير العراقيين لسنوات طويلة صدى لمدونات الغربيين هذه.

إنني أزعم أن جل ما نتداوله اليوم من الروايات عن وقائع جرت قبل سنوات قليلة مأخوذ عن مصادر غربية محضة. بل إن وجود هذه المصادر يدعم الروايات الرسمية التي تتبناها الأوساط العلمية ويؤكد استمرار هيمنة الغالب على عقل المغلوب. حتى أخذ الجيل الحالي من العرب  يتصرف بناءً على مركب النقص هذا، رغم تقلب الأحوال، وكر السنين، وتغير السنن الكونية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة