نتحدث عن حكومات ما بعد زوال النظام المباد، لان هذا العنوان “الحكومات” لم يكن له وجود فعلي زمن “ذلك الذي اذا قال.. قال العراق”. طوال أكثر من سبعة عشر عاماً من “التغيير” عرف العراق العديد من التشكيلات الحكومية تميزت جميعها بانها كانت محكومة بالفشل، مع وجود شيء من التفاوت بحجم واثار ذلك الفشل وفقاً للشروط الموضوعية والذاتية. اليوم وبعد مرور 6 اشهر على قبول استقالة السيد عادل عبد المهدي، وبعد فشل المكلفين (علاوي والزرفي) في تشكيل الحكومة الموعودة، جاء دور المكلف الثالث (الكاظمي) والذي لن يفلت من ثوابت حقبة شيمتها الفشل، حتى لو تم تمرير تشكيلته الحكومية. طلاسم الفشل هذه لا يمكن التعاطي معها بهذا الكم البائس من العطابات، التي طفحت عنها عبقريات ما بعد “التغيير” من نسيج حكومة تكنوقراط أو مستقلين أو “رئيس قوي” أو تغيير النظام الى رئاسي وغير ذلك من الاقتراحات البطرانة. كما ان استعراضات لعنه وشتمه ورميه بكل ما في ترسانة الحقد والغضب من عدة وخطب نارية وتهديدات، لن تفضي لغير المزيد من دورات اعادة تدويره.
امتلاك تصور واضح وواقعي عما يجري، وعن امكاناتنا الفعلية (لا المتخيلة) للتغيير، يبعدنا من دون شك عن ارتكاب المزيد من الحماقات والعنتريات الفارغة. وهذا يستدعي منا الاستعداد للتعاطي مع نوع من الانتصارات الجزئية واحيانا المحدودة فيما ينتظرنا من مواجهات على هذا الطريق. مثل هذه الطموحات “المتواضعة” لا تستسيغها الذهنيات المسكونة بمبدأ “لو طخه لو طلع مخه”، الذين يريدون من العراق الحالي التحول وبين ليلة وضحاها، الى ما رسموه له في مخيلاتهم المجنحة. الفشل والهزيمة لا يعيبا المجتمع (افرادا وجماعات) ولا يلحقان الاهانة به، لانهما من طبيعة الاشياء، لكن تكرار الفشل واستمرار الهزائم يشيران لوجود ما يحجب عن هذا المجتمع امكانية التعلم من تجاربه وخيباته. علينا تجنب اغواءات القفز على ما يتيحه الواقع من امكانات، وان نفهم علل وجود الاقطاعيات السياسية على اساس “الهويات القاتلة”، وما تمتلكه من امكانات ودهاء ومهارات، يمكنها من احتواء شتى النشاطات بما فيها المعادية لها، كما شاهدنا ذلك مع الاحتجاجات الاخيرة.
ان هذا الترابط الوثيق بين مرحلتنا هذه والفشل، لا يقلل من شأن هذه المرحلة و لا يعيبها بشيء، فهي نتاج تراكمات سبقتها ومنحتها مثل تلك الملامح والهوية الهشة والعجز والهوان. لنتمعن قليلا بطبيعة القوى والمصالح والاقطاعيات السياسية والعقائد المهيمنة على كل التضاريس الممتدة (من الفاو لزاخو) ما الذي نجده لديها، غير حقيقة ووظيفة واحدة؛ الا وهي اعاقة بعضهم للبعض الآخر، وشفط أكبر وادسم ما يمكن من الوليمة الازلية “الحكومات”. مع مثل هذه المعادلة والتمترسات ما الذي يمكن انتظاره غير اعادة تدوير الفشل والمزيد من الفشل. كما ان المحاولات الفنطازية لشطب كل هذا الارث من الفشل والعجز بفزعة “شلع قلع”، لن تقدم له سوى المزيد من الخدمات المجانية. مثل هذه الصورة التي تبدو معتمة ومتشائمة، تعيد للاذهان ما قاله هيغل “الحرية هي فهم الضرورة”. وما نحتاجه للتعاطي مع كل هذه المساحة الواسعة للفشل؛ هو فهمه ووعيه فمن دون ذلك ليس امامنا سوى استقبال المزيد من صفعاته المهينة وفواتيره القاسية.
جمال جصاني