شيطنة المحاصصة

لم يتبق شيء من ترسانة الشر والموبقات الا والقي بها على كاهل هذا المفهوم (المحاصصة)، ووصل الحال بهذه المفردة الاكثر شيوعاً وتداولاً في عراق ما بعد “التغيير”، انها تحولت الى السبة واللعنة الاشد فتكاً وتشويهاً لكل من تضعه الاقدار في طريقها. لكن هل تستحق حقاً مثل هذا المصير..؟ عندما نحاول التعرف عليها بعيدا عن طوفان الاسقاطات التي تناهشتها من كل صوب؛ نجدها تتنافر تماما وما وجدت من اجله، أي أن تعيد لكل ذي حق حقه، أو بما عرف في المشهد السياسي “حصته”.
لقد تم تشويهها وشيطنتها، عندما اختزلت بما فرضته عليها القوى والجماعات التي تقاسمت أسلاب الغنيمة الأزلية بعد حقبة الفتح الديمقراطي المبين، أي انها تحولت الى غطاء لعمليات النهب والفرهدة الواسعة التي قادتها تلك الكتل ورأس رمحها (المكاتب الاقتصادية). وعندما نتمعن جيدا بتفصيلات ما جرى، ودور المحاصصة فيما انحدرنا اليه؛ نجد ان المشكلة بعيدة عنها، فالمحاصصة بحد ذاتها ليست بالشر المحض، بل بنوع المحاصصة ونسختها المحلية المتناغمة وما تتسم به الكتل المتنفذة من شراهة ولصوصية وضيق افق.
ان حالة الالتباس في المشهد الراهن، وما يرافقها من عجز عن التمييز بين الحاجة لشكل من اشكال المحاصصة، ينسجم ومتطلبات ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، والنسخة المشوهة التي اشرنا اليها؛ يجبرنا على الدوران في حلقات اضافية من الهدر والاستنزاف. كما ان طوفان المواقف والخطابات الديماغوجية، والمتخصصة بتقنيات الهروب الى الامام، والتي يعيد انتاجها من دون ادنى وجع من عقل أو ضمير، نجوم وممثلي هذه الطبقة السياسية، عندما يشهرون برائتهم من “المحاصصة” بوصفها “رجس من عمل الشيطان” يعكس بوضوح حجم الظلم والحيف الذي لحق بهذا المفهوم المستباح.
اليوم يعد السيد محمد توفيق علاوي بتقديم تشكيلة لحكومته بعيدة عن مشيئة الكتل المتنفذة، وبغض النظر عن مدى واقعية وجدية هذا الامر، الا ان موضوع حصص ما يعرف بالدستور العراقي بـ “المكونات” مؤمنة وبعيدة عن عبث العابثين. مثل هذه “التوافقات” والتي لا يستسيغها الكثير من العراقيين، هي نتاج لحزمة من الشروط التاريخية والموضوعية التي شهدها العراق، وبنحو خاص في العقود الخمسة الاخيرة، عندما تم استهداف جميع جسور الثقة والتعايش والحوار بين سكان هذا الوطن، وسحقت فيه كل اشكال التعددية والتنوع الثقافي والسياسي. لذلك شئنا أم ابينا سنبقى نستعين بمنهج المحاصصة بوصفها الوسيلة المجربة لترميم كل هذا الخراب الذي خلفته حقب الاستبداد والاستئثار. ان مواقف الكتل والجماعات المتنفذة (من الفاو لزاخو) تؤكد وبما لا يقبل الشك، على استمرار الحاجة للمحاصصة بوصفها “شرا لا بد منه”، وللحد من مساحة هذا الشر، نحتاج الى اعادة انتاج وتقويم نسخة جديدة متخففة من سطوة وشراهة قوارض المشهد الراهن. لقد كشفت ردود الافعال الاولية لما تسرب عن التشكيلة الحكومية المقبلة؛ عن عدم رضا وامتعاض من قبل ممثلي مكونات اساسية في البرلمان الحالي، على حيثيات ما جرى ووصل الامر بالمطالبة بتقديم بديل عن السيد علاوي، كما رافق تلك المواقف تهديدات صريحة باعاقة عمل الحكومة المقبلة. انها معطيات واضحة تذكرنا بالعبارة المشهورة “تقدرون وتضحك الاقدار”، فلا جدوى من تقنيات الهروب الى الامام، والقاء موبقاتنا على شماعة المحاصصة، والتي لم نعرف عنها سوى نسختها المبرمجة وفقا لمشيئة قوارض عراق ما بعد “التغيير”…

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة