لا احد بمقدوره ادعاء ملكيته أو مشاركته للعراقيين في صناعة مفردة “الفضائي” أي الشيء أو المخلوق الموجود على الورق ولا يملك أي وجود فعلي له على أرض الواقع. هذا المفهوم الذي اغتنى بمضامين وشحنات تتناسب والحاجات المتعاظمة لغرائبية المشهد الراهن. بعد أن أيقن ممثلو الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور البلد بعد “التغيير” من عدم وجود أية تهديدات أو قوة جادة تعرقل مسيرتهم الظافرة في فرهدة ما تبقى من اسلاب الدولة، تفتقت عبقريتهم عن ضرورة ابتكار نوع متطور من الخطوط الدفاعية تضمن لهم ديناميكية “التمدد والبقاء” وتدخل الرعب والشك بقلوب وعقول كل من تسول له نفسه بالاقتراب من اقطاعياتهم السياسية والادارية؛ وذلك عبر انتاج ما يمكن أن نطلق عليه بـ “الانجازات الفضائية”، والتي تتحول تدريجياً وبفعل الاصرار على الضخ المستمر للاكاذيب عبر الاستعانة بالخدمات الاعلامية مدفوعة الثمن، الى ما يشبه الحقيقة، لا في اذهان المتلقين وحسب، بل عند صانعيها والمشاركين في سيل كرنفالاتها التي لا تنقطع. ان عجز الدولة والمجتمع بكل مؤسساتهما الرسمية والشعبية، عن كشف حقيقة ومغزى هذه “الانجازات” المصنعة خصيصا للتستر على ما يحصل من جرائم واهوال بحق هذا الوطن المستباح واهله؛ يعكس حقيقة قدراتنا البائسة على التغيير والاصلاح.
عندما يتجرأ البعض من الافراد أو الجماعات والمؤسسات والوزارات، على اصدار البيانات والمطبوعات وتنظيم الاحتفالات والنشاطات التي تحتفي بمثل تلك “الانجازات” من دون الالتفات الى ما تبقى لدينا من قدرة على فك طلاسم بنية وعلاقات وارث وتقاليد عمل وضعتنا على رأس البلدان الفاشلة عالمياً؛ فان ذلك يشير الى حجم استخفافهم بذلك الكم الهائل من العاملين في مجالات الرقابة والتفتيش والقضاء والتشريع والمتجحفلين معهم بسكراب “السلطة الرابعة”… ان مناخات وشروط ولادة الانجازات الفعلية والواسعة، ما زالت بعيدة وهشة، وان وجدت في مكان وزمان ما في المشهد الحالي، فانها لا يمكن ان تكون الا محدودة وذات طابع فردي، كونها تتعارض وما اشرنا اليه من بنية محكمة للفشل والفساد وهيمنة المعايير والقيم الكفيلة بتحويل كل ما له صلة بالكفاءة والنزاهة والايثار الى شذر مذر.
كما ان شيوع مثل هذه “المآثر” و “المنجزات” وتغولها، يكشف عن حجم اغتراب وسائل الاعلام باشكالها وعناوينها المختلفة عن وظائفها وادوارها التي وجدت من أجلها، وعن حجم تواطؤ غالبيتها مع هذه الطبقة السياسية ومجترحي فتوحاتها المادية والقيمية. ان مجرد التفكير في ارتكاب انجازات فعلية، وسط هذه البيئة ومعادلاتها واصطفافاتها ومعايير الخراب المهيمنة فيها، (ان افترضنا حسن النية في مرتكبيها) يشير الى عمق اغترابهم عما يحصل حولهم ونوع القوى والمصالح والعقائد التي تعصف بمجرى الاحداث. مثل هذه المعطيات والتي تبدو متشائمة ومثيرة لليأس والقنوط لدى البعض، تختزن جانب آخر يدعو للعمل عبر الوعي العميق لبنية الخراب الشامل الذي خلفته تجارب العقود الاخيرة لما قبل “التغيير” وبعده. من دون حصول زحزحات نوعية في هذا الميدان الحاسم في حياة المجتمعات والامم (الوعي) وادراك خطورة ما انحدرنا اليه من ضحالة وغيبوبة (فردية وجمعية) سمحت بكل ما اشرنا اليه من استباحات وهدر للكرامة والحقوق والحريات؛ يصعب انتظار اية مؤشرات على تعافي هذا الوطن وامتلاك القدرة على اجتراح الانجازات الفعلية…
جمال جصاني