مهدي علي ازبين
تعد الرواية من أهم الأجناس الأدبية التي تتمتع بقدرة عالية في التعبير عن السرد وآلياته، وهي متمددة باشتراطاتها التي لن تتوقف، منفتحة على الفنون الإبداعية الأخرى، متفاعلة معها، ولها القدرة على تقبل البحوث التاريخية والعلمية على اختلافها، ومن ثم تقدم صورة مشحونة بطاقات الروائي في أعلى مستوياتها الفنية، كما فتحت الرواية آفاقًا متجددة أمام الباحثين والمتلقين في كيفية قراءة النص الأدبي، وأسهمت في إثراء الساحة النقدية برؤى ومفاهيم كثيرة.
وهنا ندخل في مغامرة لإخضاع رواية (وجوه حجر النرد) إلى تحليلات الحفر في سطح الخطاب وفي أنساقه المضمرة؛ آملين في التوصل إلى تأويلات ترشح من عملية التسارد، بين ما رغب الكاتب في توصيله عبر سارده وبين مستخلصات المتلقي.
العنونة وتجليات الغلاف:
يطالعنا الغلاف بعنوان من ثلاث مفردات، وقد أُفرزت مفردة (وجوه) بحجم أكبر من مفردتي (حجر النرد)، وهو إعلان بصري عن هذا الحجر المكعب الذي اخترعه الإنسان، وشكّله بستة وجوه متساوية الأبعاد، وقد اشتغل الكاتب على تقليب هذا الفاعل الوهمي في التفاعل الإنساني ضمن حيز مكاني (مدينة) لم يعلن اسمها بشكل مباشر، وما رافق تاريخها من اصطفافات مجتمعية، تمثلت برموز السلطة وتوابعها والأغنياء (الخاصة)، وتمايزهم عن عموم الشعب (العامة)، أو الشعوب التي استوطنت هذه الأرض.
تداخلت الألوان والرموز في تشكيل الغلاف، ومن خلال السرد في التصميم يمكن ملاحظة مقاصد زحف الألوان النارية على البياض المحاصر في أسفل يسار اللوحة، كما ساحت ألوان النار على الغلاف الخلفي لتظهر صورة الكاتب (المتفحص في التاريخ) من عمق المعاناة، ليدوّن بكل شفافية تفاصيل كثيرة عن متوالية المآسي التي حلت في بقعة يقسمها دجلة على جهتين.
لقد تفاعل تصميم الغلاف الذي أنجزه (نصير الشيخ علي) مع متون العمل النثري، وجاءت كتله اللونية متساوقة مع رؤية الكاتب، وانفتحت إلى أبعاد مضافة أوحى بها المعمار البصري المعبر.
تصدرت الغلاف رسمة أو مصورة منحوتة تحاكي مشاهد رسمتها سريالية الواقع، وتكرار وقائعه المريرة، وهذا المعمار البصري أطلق رسائل مبهمة أو تهكمية، فاستحال الجسد البشري إلى مصيدة بأوتار مشدودة، تسدد رأسًا بملامح تقارب الوداعة أو الاستسلام والتسليم لمصير تتحكم به قوى خارجية خفية، وتضفي الأيقونات المبثوثة غرائبية تنفتح على مستويات تلقٍّ مستفيضة، فجعل التشكيلي أصابع القدم ستة، كما أضاف لليد المسددة إصبعًا سادسًا، على شكل سبابة ثانية، قاربت نهايتها رأس أفعى مثلث، إشارة إلى أخطر أنواعها، وهذه التقاطة تتسق مع ما ورد في المتن على لسان أحد عباد الكراسي؛ حين عبر عن أهمية وجود الأصبع السادسة لدى السياسي، فهي المنفذة لأوامر دهاليز السياسة ودسائسها التي لا تلتزم بالمبادئ أو أخلاقيات السلوك الإنساني، وهي إحدى مخرجات جهات الضغط الهلامية المسماة الدولة العميقة.
لمحة في المتون:
اشتغل النص على استحضار التاريخ بمقتطعات تتلاحق حتى عصرنا الحاضر، فقد أعاد الكاتب قراءة الوقائع التي وصلتنا عن طريق المؤرخين والرواة، وعمل على تقليب الأمور من زوايا نظر متعددة، توزعت على الأوجه الستة لمكعب النرد.
تمحور فضاء السرد في أجواء مدينة مستحدثة لم يذكر اسمها في البداية، لكن المتلقي يستشف ماهيتها، فقد ارتبطت بمن اقترح إنشائها وأشرف على مبانيها وأسوارها وأبوابها، وهو خليفة من النسب الهاشمي غيّب السارد اسمه، وامتد هذا (التغافل) إلى ولي العهد وحفيده الذين تداولوا الحكم حتى تغييبهم القسري بسبب التداخلات الخارجية والصراع على مقاليد الحكم، إلى أن يضعنا السارد في القرن العشرين وما يليه، حيث يعود النسب الهاشمي لتولي زمام الأمور وسياسة الرعية، وهذه المرة على يد فاعل خارجي ارتأى أن يعيد (استحقاقهم الموروث).
تعمد هذا الترادف على الحكم بالدسائس والفتن في التآمر وضرب الأمثلة الفاضحة بالخيانة والخداع، ويطلعنا النص على كيفية اهتزاز أقرب المقربين للحاكم الذين يوغلون بالانصياع إلى رغبة الطامع الأجنبي، على أمل في نيل المناصب أو العطايا. لقد توارد هذا النسق في حياة هذه المدينة التي غدت قبلة العالم، كما جنحت جهات من قلبها لاستدعاء الاحتلال بدعوى التغيير والبحث عن حياة بمعايير جديدة.
لعب الجسر الرابط بين ضفتي النهر دورًا تفاعليًا في ثنايا السرد، وكان شاهدًا على أحداث مفصلية من تضاعيف تاريخ المدينة، يتضح ذلك في التقاطات الكاتب لصور بانورامية لما جرى على فضاء هذا الجسر ومقترباته، فيصوّر لنا مشهد قدوم جحافل الجيوش المسنودة من جهة خراسان للاستيلاء على الحكم في عاصمة الخلافة الجديدة، وتغيير الخليفة وولي العهد، كما نقل لنا فعالية قدوم ولي العهد وهو مكلل بالغار بعد نجاحه في اجتراح انتصارات كبيرة على (الكفار) في ثغور الدولة المتمددة الأبعاد، جالبًا معه غنائم لا تعد ولا تحصى، توزعت بين أسلحة مقاتلي الأعداء من سيوف ودروع وخيول، ثم يقدّم مشهد يستعرض فيه الأسرى، والسبايا سليلات إلهة الجمال اللواتي يتعرضن لافتراس عيون النظّار الشبقة قبل افتراسهن جسديًا ونفسيًا.
استمر حضور هذا الفاعل حتى راهن وقتنا، فيمر السارد على بعض الأحداث، منها ردة فعل بعض شرائح من الشعب بعد انتشار نبأ مصرع الملك سليل الأسرة الهاشمية، وهم يهتفون بمطالب منها معرفة ملابسات الحادث والكشف عمن يقف وراءه والاقتصاص منه، الأمر الذي أجبر رئيس الوزراء حينها على طلب قارب لنقله إلى مقر عمله بدلاً من سلوك مسار الجسر.
يعود إلى ذكر الجسر مرة أخرى حين يقلب صفحة من تأريخ العراق الحديث في عهد الملكية الهاشمية، وما جرى على الجسر بعد انتفاضة الجماهير ضد المعاهدة الجديدة مع المستعمر الأجنبي، وكيف استخدمت السلطات بيوت العبادة على طرفي الجسر في التصدي للجموع الغاضبة.
هذه الإضاءات على حضور الجسر في متون الرواية؛ تذكرنا برواية (جسر على نهر درينا) للكاتب إيفو أندريتش، لكن الجسر في (وجوه حجر النرد) نكهته عراقية خالصة، جاءت متساوقة مع تدفق السرد كداعم لمجمل الحبكة التي تشكلت في الفضاء الروائي، وفاعل أساس في تلك المدينة التي توالت عليها مظاهر الازدهار والانحطاط.
ما يشبه الخاتمة:
- طبعت لغة الرواية الإجرائية بمواصفات الجزالة التي قاربت صياغات المقامات ومدوّنات أعلام الموروث الأدبي، لكنها خالية من السجع والقوالب الجامدة مع بعض الاقتباسات التي أغنت الخطاب، وقد حدثت انتقالة في انسيابية السرد مع وجه النرد الخامس (بنج)، وتصاعد الإيقاع مع الوجه السادس (شَش)، إذ دخلت فواعل آدمية معاصرة، تجسد سلوكيات أقارب الرئيس، وأفراد من الحرس والأطباء والرفاق في القيادة العليا للحزب في مشاهد وحوارات خففت من السرد الإنشائي، وأضفت ديناميكية في التلقي أفضت إلى زيادة جرعة التشويق.
- تتجلى هدفية الرواية في استخلاصات السارد (ومن ورائه الكاتب) من عملية إعادة قراءة التأريخ ومحاكمته، والمحاولة لتحديد مكامن الخلل في تراتبية مستويات الكتلة المجتمعية ضمن بقعة محددة (بغداد وتوابعها)، والكشف عن أسس العلاقات بين رأس السلطة وجموع الشعب، وكيف تساق الناس إلى أتون الحروب ووسائل التسويق لها وتسويغها، لتختزل في مآلاتها المتمثلة بالمآسي والكوارث، معبرة عن صورة أرضية لجهنم التي وقودها الناس والحجارة، وما تخلف من تداعيات لا تنتهي، وغالبًا ما يسلم من شرورها الحكام والقادة وعلية القوم.
- التنبيه من خطورة الخطاب الذي يدغدغ العواطف، وذلك ما ظهر في المتون من تلميحات على تأثير أساليب التعبير على المتلقين الذي يؤول إلى تحريف المضمون، ومنها استخدام السجع والمبالغة في البلاغة اللغوية، وتحقيق الغايات بالتأثير على قناعات عامة الناس باستدرار عواطفهم، و(تحميس)هم وتعميتهم للتحكم في توجهاتهم الرؤيوية.
- ومن مخرجات العمل الفكرية أن المجتمعات التي يستشري فيها الفساد لا يمكن إصلاحها.
…………………..
*(وجوه حجر النرد)، رواية، حسن كريم عاتي، دار العرب، دمشق، 2024م.