جمال جصاني
لم يمر وقت طويل على حزمة القرارات التي اصدرها الحاكم المدني للعراق بحل الجيش السابق وبقية الأجهزة الامنية والقمعية، حتى انطلقت عمليات عشوائية غير مسبوقة لإعادة بناء وترميم أجهزة بديلة. كل ذلك ترافق مع فوضى شاملة لم تخلق غير عجاج طارد لكل انواع المعايير المطلوبة لمثل هذه المراحل الانتقالية. وبدلاً من الخطط والمشاريع التي تجفف لنا منابع وثقافة العنف والعسكرة في الدولة والمجتمع، استردت منظومة الدمار الشامل هذه ليس قدراتها ومواقعها السابقة وحسب بل عززتها بمواهب وشراهة القادمين الجدد. ومن يتابع نوع القيم والممارسات والتقاليد في هذه المؤسسات «الجديدة» يكتشف حيوية وعراقة «الثوابت» الخالدة لتلك الاجهزة والادارات وخاصة في مجال الشرطة بوظائفها ومراكزها ومخافرها التي تعج بمئات الآلاف من المنتسبين القدامى والجدد.
وسط قافلة الصخب والضجيج وعجاج الاورام الامنية هذه، هناك خطوة يتيمة تسير عكس التيار تتعلق بمؤسسة فتية وواعدة هي (الشرطة المجتمعية) ذلك الفصيل الذي يمكن ان يمثل باكورة بناء آخر متنافر وما هو سائد في جزر الخراب الشرطوية الحالية، حيث يتم الانتساب لهذا الفصيل الفتي على وفق اسس ومعايير حديثة ومجربة ومهنية وصارمة، طبعاً لا يخلو الامر من امكانية تسلل مضاد ومخرب لهذا الجهاز الحيوي، لكن مع وجود وعي بأهمية مثل هذه البدايات النوعية وتوفير الشروط والحماية المطلوبة لها بمواجهة غول الفساد في مواقعه وملاذاته الأثيرة، يمكن ان يعيد لنا شيئاً من الامل بامكانية النهوض بهذه المجالات الخطرة والحاسمة في حياة الناس وامنهم وثقتهم بالنظام الجديد. نحن اليوم بأمس الحاجة لبناء ادارات وفصائل لا يضع منتسبوها نصب أعينهم موعد تسلم مرتباتهم الشهرية وفرص اقتناص المكاسب والغنائم العابرة، بل دوافع وقيم منحازة لخدمة ابناء جلدتهم وقضايا الشأن العام ومصير ومستقبل وطنهم، ومع مثل هذه الانبثاقات المغايرة لمشاهد الانحطاط والفساد المهيمنة حالياً، يمكن الشروع بتقليص شراهة النسخ الجديدة من قوارض المنعطفات التاريخية.
نأمل ان تحيط الاقدار هذا الفصيل الفتي باهتمامها ورعايتها، بعيداً عن أدران وفضلات التجارب الهمجية السابقة، وان يدعم بكل الوسائل الممكنة ليكون انموذجاً لتطلعات اجهضت طويلاً في هذا الوطن المنكوب بلعنة الاستهتار بابسط متطلبات الكرامة والعيش كبقية الامم التي اكرمتها الاقدار بشرعة الاعلان العالمي لحقوق الانسان.