مريم العطّار
الشـِعر في العراق لحنٌ عتيقٌ و حزين خَرَجَ مُنذُ عقودٍ مِنْ نايٍ سومريّ لهُ تأويلاتٌ عديدة و صورٌ كثيرة ..الشـِعر في العراق يرد على لسان العديد, كتلك الأم التي تُغني لولدها ( دِلِلولْ ) و العجوز الذي يخرج مساءً إلى المقاهي والشابّ البسيط الذي يعمل و يعيل عائلته, يمكنهم جميعاً كتابة الشعر. الفرد العراقي عاشق دائم و كاتب له علاقة فكرية مع النَص. وهذا يأتي مصداقاً لقول الشاعر الكبير محمود درويش: (إذا أردت أن تصبح شاعراً فكن عراقياً).
بعد الانفتاح على وسائل الإعلام الحديثة وسهولة النشر وبعد دخول الكتب المتنوعة و المصادر المختلفة من الأدب العالمي و زوال مؤسسات الرقابة، و انتهاج مبدأ التجارة في دور النشر, كل هذه المسببات أدخلتْ مفاهيمَ جديدة الى قواعد و مفاصل القصيدة الجديدة.
المهم في كل هذا هو إمكانية اختيار مَن يجيد إزالة الغبار العالق فوق هذه المتغيرات و المتناقضات المخيفة كي ينبلجَ صبحُ النَصّ المتكامل الذي نبحث عنه!
هناك الكثير ممن يجيد ويحترف هذا البحث و يظهر لنا سلة من الفاكهة الملونة كنصوص مدهشة في بنائها وأسلوبها الخاص بنكهة عراقية جديدة.
وأحياناً يوجد شاعر شاب لا يستطيع حمل هذه السلة لثقل محتواها، فتاريخ العراق وحاضره يضعان الشاعر أمام متاهة أما أن يكتفي بحمل جراحه و الكتابة عنها و أما أن يكون شاعراً عابراً يوزع نصوصه كبطاقات بريدية الى المتلقي و يمضي.
أرى أنّ الشعر هو تمرد و امتناع عن الانقياد, الشعر هو إنصات للذات, أن يصدّرَ الشاعر الأمان كما يبرّز الخوف، أن يعرض حياته وخصوصياته للقارئ كما يشعر بكل حدث وألم يشعر به غيره.
الإنجاز هو مهمة تقريب وجهات النظر بعيداً عن الأنانية و بتفاعل مع حضارة العراق وغيرها من الدول لأن الشعر برأيي، هو أسرع وسيلة لإنعاش التفاعل بين البشر إذ يمكن له بهيئته المعاصِرة، غير التقليديّة، أن يعرّف الآخرين من دون تقييد أو مَيل عن جادّة الجوهر.
ذلك بأن يتمتّع الكاتب بسَقفٍ من الأمانةِ غير واطئ، أن يكون عاشقاً ليس للمرأةِ فحسب، إنما عاشقاً للنخيل، للجدران، للمُفردات التي تدبّ في أوصالِها الروح، أن يكون «شاعراً» بذائقةٍ تسَعُ كل الموجودات وأن يجيد صناعة الفرح كما يجسد الحزن كلماتٍ نديّة تبلّلُ وجنات أوراقه, حينها، يستطيع أن يرفع صوته جَهاراً ليقول ما يريد بكل شجاعة و صراحة.
بعد تقاطُرِ هُتونِ الاحتلال في العام 2003 و ما تلاها، تحررت بغداد و كل المدن العراقية و كأنما تحرر الأدب من ربقةِ الرقابة ممّا أسهم في إفسادِ ذوق المتلقّي و المثقف العراقي.
الفساد الثقافي دخل في الشعر كما في جُلّ مفردات حياة المرء، ولو تصفحتَ الصفحات الثقافية في أغلب الصحف؛ لوجدت – على هيئةِ نُصوص – الكثيرَ من الأخطاء و الصور الركيكة ووجبات الحقد بأنواعه و التمجيد المجانيّ!.
و هذه الوجوه المخبأة وراء الأسماء المزيفة بسرعة انتشارها، تفشّتْ كالنارِ في الهَشيم فكما نعرف الصوت الجيد يجب أن يثبت حضوره المكثف دائماً في النصّ وفي الوسط الثقافي وأن يكون النص واضحاً بالشكل و المضمون أو ما تعارَف على تسميته بالأسلوبية، لكننا اكتشفنا بعد حين، اختفاء هذه الأسماء أو انصراف اهتمامها عن الشعر إلى فنون أخرى!
وداعاً بهجة الحياة
الفاعل الأساسي في النصوص مختلف لدى الشاعر الشاب العراقي, بعد دخول مصطلحات جديدة؛ تجد في قراءة أعمالِ معظمهم، الموتَ عنصراً أساسيّاً ولا مكان فيها لبهجة الحياة، السطور تنثُّ رائحة البارود و اللحم المحروق و الفجيعة و صرخات الأمّهات, الشتائم وأصوات سيارات الإسعاف كل هذه الأحداث يعيشها الشارع و الشاعر العراقي معاً.
في مجموعة شعرية بعنوان (أقول آه فتكرر الكلاب نباحي ) للشاعر ميثم الحربيّ، يقول :
«الدفان في مدينتي
و هو ينظر إلينا كجثث،
نتحوّل في جيبِ نقوده
إلى مقبرة طائلة «
كل هذه دلالات تصف للمتلقي مقبرة واسعة يعيش فيها الفرد العراقيّ.
و كما أعتقد أن الزمن في الشعر مهم جداً، الزمن بالنسبة لي شخصياً، ممثلٌ يجيد أدواراً مختلفة، في كل نص له دور يختلف عن الآخر, أحياناً ألعنُ الزمن, أحياناً يفجعني, أحياناً يقف وأحياناً يهرب على حين غرّة.
أما التاريخ و الماضي يتكرر دائماً بخجل في قصائدي، ولا أبتعد عن استعمال مفردات كالوحوش واليأس والقاذورات والعَبرة والحسرة والموت، ما أجسده هو نظرة عميقة لكنها مختصرة عن الذي أراه و نراه في الواقع.
في نص لي بعنوان (سيمفونية الحرب) أقول:
«دعكَ من السطر الأول
لوْنُه باهتٌ كشاربِ جنديٍّ لم يبلغ بعد
موسيقى فاسدة صوت الرصاص
سيمفونية الحرب رعناء
و أنا سفيرةُ حبٍّ تكتب غزَلاً فوق الجثث
تخرِجُ الأشواكَ من أجساد الورود
ورود تفوح برائحة البول
و الدم
و البارود الأسود»
كما أشير في نص آخر بعنوان (مشاة مجانين) إلى إلغاء الآخر عبر هجوم الرعاع والإرهاب في بلادنا..
«لا أحدٌ يعرفُ فوقَ أيِّ عُنقٍ سيعلِّقُ الموت
هذهِ المرّة حبالَه
أنتَ مُسرعٌ حقّـاً
لا أستطيعُ إخباركَ
أن الجنانَ التي رميتَها تحت أقدامهنّ وعِرة
هجرها السكّان يومَ تعالتْ تكبيراتُ
ووعودُ أصحابِ اللّحى العفنة .
مُسرعٌ جداً
كيف أخبرَك
إن يدَكَ رسمت البياضَ و السوادَ على الجدران
و ما حصلنا عليه رمـــاد …».
و أتّفق مع رأي الشاعر والباحث جمال علي الحلاق في حوار أجراه معه الشاعر سليمان جوني يخبره أن ( التاريخ يتقمص دور إبليس للدخول إلى الذهنية و يعتقد أن الشاعر هو ( الأفعى / النفق ), لمرور التاريخ المحرّض إلى ذهنية الشارع المطمئن و يقول أيضا ً أن ( التاريخ، نَصّ شعري مترهّل!) .
الزمن و التاريخ في نصوص الشباب أيضاً، أراهُ مختلفاً، مثلاً، هناك الكثير ممن يذكر طفولته في قصائده كأنه عاش أجمل أيام حياته في الطفولة التي غادرها مسرعاً و أحياناً كثيرة، نجد هذا الطفل يتوجّه إلى والديه بنصوصٍ إن صح القول، ذاتية تأتي بهيئة سرد لواقعه مع أطُرٍ لصور لعائلته.
مثلاً نرى في نَصّ كتبه الشاعر العراقي الشاب عمر الجفّال في مجموعته الشعرية (خيانات السيدة حياة ) التي طبعت العام 2009 عن دار التكوين.
« أبي سياسةٌ دهماءٌ, و أمّي قِدرٌ من الحلاوةِ لا يستوي.
خمسُ عَمّات ٍ يُتْقِنّ اغتيابَ المستقبل ْ. خالةٌ منشغلة ٌ بتأويل المعنى, عمٌ صهرته دببة الحرب ِ بألسنتها. خالٌ تفيأتْه مفخخةُ الرّعونة».
هنا الشاعر يعمَد إلى وصف أفراد عائلته و يخبر المتلقي عن أحوالهم هكذا وصف يتكرر في قصائد الشباب بعد التغيير.
تواصل مع الحدث الشعري
يمكننا أن نلحظ بعض الشعراء الشباب في هذه المرحلة منهم مَن يكتب القصيدة ذات البناء المتكامل والصورة الشعرية واللغة الرصينة التي تليق بقصيدة النثر وهو نِتاجٌ للتواصل مع الحدث الشعري والقراءة المستمرة والوعي لما يكمن في شكل وبناء القصيدة، أذكر منهم الشعراء الذين لديهم منجزات ورقية كـ ميثم العتابي, علي محمود خضير, صفاء خلف, علي وجيه, أحمد عزاوي, حسام السراي, ميثم الحربي, قاسم سعودي, نبيل نعمة الجابري, أحمد شمس، علي رياض وآخرين.
النَصّ هو بناء رصين ومتماسك علينا نحن كـشعراء شباب، أن ندرك الشروط جيداً وإلا سنقبعُ إن آجلاً أو عاجلاً، في جُبِّ الوهم.
هنا لا أتحدث عن القصيدة فقط و إنما أتحدث عن الأدوات التي من الضروري أن تكون ضمن ما تحتويه حقيبة شاعر.
أن تضع المشهد في قصيدة مختزلة بحِرفيّة, إضافة إلى تأثيره على المرء و على المجتمع وولوجه قلبَ القارئ بشاعريةٍ، لا تعرف من أين جاءت لكنها خرجت بالتأكيد من قلبك لتدخل إلى قلوب الآخرين.
أما بالنسبة لدور المرأة في المشاركة الأدبية فهنالك مسارب:
أما أن تلجأ لوسطٍ يكون فيه النشر في الصحف منوطاً بدخولِ إحدى حلقات سلسلة المحسوبيات الخاصة بالقائمين على ملء الفراغات في الصفحات الثقافية فيها، أو إدراج اسمها في المهرجانات الكبيرة، أو لنسَبِها أو تفرّدها حينما ترد من إحدى الدول الأجنبيّة و تبدأ بالتعرف إلى كبار المسؤولين، ممّا يسهم في تذليل إزاحات منعرجات الطريق.
أو عليها أن تكتب نصوص إيروتيكية في مجتمع مكبوت جنسياً، وأحياناً، عليها أن تكتب ما لايُقال في أيِّ مقام!، أو أن تضمّن في أعمالها عامل الدِّين الذي يشكّلُ عقدةَ اختلاف لدى الكثير من الجِهات في العراق، مما يُعمِلُ جدلاً واسعاً في الحوارات بين جمعِ الكتّاب، و في هذا ضمان انبساط البساط الأحمر تحت قدمَيها، وصولاً إلى منصّة إلقاءِ الشعر !.
و منهنّ مَن هي بعيدة عن التداول في بورصةِ المجاملات، لها القليل من الأصدقاء و المعارف, ترفض أن تكون مكبّاً لرغبات المثقفين ونادراً ما يُذكر اسمُها، وأحياناً، يأتي ذكر أعمالها في الدول العربية أو الأجنبية ومن ثم في العراق.
المحور الآخر الذي أود أن أتكلم عنه هو التغير السريع والمفاجئ في نِتاج الشُعراء الشباب, و من أبرزِ ملامحه، العنصرية المروعة التي تختفي تارةً و تعود لتتضحَ جليّةً أطواراً، تختفي في نمط قصائد البعض و تكاد تكون من أبرزِ الملامحِ في أعمالِ آخَرين.
إجمالاً، أجدُ أنّ الشاعر العراقيّ الشابّ بعد التغيير، قادرٌ ببساطة، على ركوبِ موجة الحّداثة بالطريقة التي تضمن له إجادة الإمساك برسنها متمسّكاً بمعالِم الأصالة المعهودة لأجيالٍ من أروع الروّاد المصنَّفين عربيّاً وعالمياً ممّا أتاح لجيناتٍ جديدة من أنماط الكتابةِ، وُلوجَ فضاءِ التعبير.
أما الموضوع الأكثر أهمية في بناء قصيدته هو الأحداث اليومية إن على صَعيد السياسة أو الحياة الإجتماعيّة، فالشاعرُ – إن لم يكن الإنسان عامةً – وليدُ بيئته، فما التفجيرات و الجرائم بتعدّد أنواعها، إلاّ مواضيعَ يستمدّ منها الشاعرُ صوراً تتوافق و نظرته و الطريقة التي يسلّطُ بها الضوء عليها ليستخرجَ ضالّتَه.
و لدى إعمالِ النظَرِ في نصوصِ الشُعراء الشباب في العراق، ستستشفّ الكثير ممّا حالَ غُبار الأحداث من دون بروزها من التماعات في طريقة الصياغة وحِدّةِ النظر وتفرُّد في امتلاكِ آلاتِ تشكيل الحروف.
البحث عن الذات
و بعيداً عن الدين والسياسة ومجمل محرّكات الحياة، لنتّجه إلى محرّكات البحث في المواقع الالكترونيّة و صفحات مواقع التواصُل الإجتماعيّ وأخصّ بالذّكر هُنا، النِتاج الأدبيّ الضخم المنثور كالنجومِ المتدليّةِ من فضاء « الفيسبوك» الأزرقِ، بإمكانك أن ترى قوافل من الأقلامِ تجدُّ في البحثِ عن ذاتِها، عن الحريّة، الحبّ، الوطن، الحقيقة.
القصيدة الجديدة في العراق على الرغم من مّسحةِ الأسى، أجدُها واثقة من نفسها في داخلها صوت عالٍ ووراءها روح متعبة لكنها لا تمل من الكتابة، التنقيب عن الجوهر.
كل هذه العوامل أدّتْ إلى نشوء نظام فكريّ جديد يمكّن الكاتب الجديد من الانتماء لهذه الدائرة بإمعان النظر في الذي يدور حوله وتسجيله في المتصفحات والمواقع الثقافية وأكاد أجزم أن أغلب هؤلاء المأخوذين بالشاعرية يستطيعون كتابة أكثر من نصٍّ يومياً ولا يخشون الحاضر الهارب منهم ولا المستقبل المجهول الآتي، يكتبون وحسب آخذين بنظر الاعتبار التغييرات المستمرة الطارئة على حياتهم، الواقعيّة والافتراضيّة على قدمِ التداخُل.
وقسم منهم يجانبون الصمت و يحتفظون بنصوصهم لدفّتيّ مجموعة شِعريّة من المأمول أن ترى النور ذاتَ دارِ نَشر.
قالوا أيضاً عن قصيدة النثر الكثير، منهم مَن يزعم أنها جُلبتْ من الغرب ولا علاقة لنا نحن العرب بها و بحسب آراء النقاد، أنها حديثاً ما أعترف بشرعيّةِ ولادتها من أبيها، الشّعر العربيّ.
و لو بحث المتلقّي عن أصولها؛ لوجدَها .. ثمرةً أثيلةً، تتدلّى من غصنٍ غضّ في شجرةِ الأدب العربيّ ، تُسقى من ذاتِ الفَلجِ و تمدُّ جذوراً في ذاتِ التُربةِ بقوامٍ نسغُهُ ثمانية وعشرونَ حرفاً.
و في النهاية .. الفكرة والحدث الشعري هما قبَس لنا في رِحلةِ البحثِ عن الكَمالِ في توظيف اللغة في عالمِ الشِّعر الجميل.