سعد القصاب
يحفل تاريخ الفن العالمي بنماذج كثيرة، كما الحال مع تجارب فنوننا الوطنية، فهنالك دائماً أعمال لا نستطيع نسيانها كما لا نمل من الاطلاع عليها، إنها تدهشنا، وتثير تعاطفاً لا ينتهي. ولكن ليس بأسباب انطوائها على تكرار بلاغتها الفنية، بل لأنها وفي اللحظة المختلفة التي نبصر فيها هذه الأعمال نجدها تطلّ هي أيضاً، بدورها، على أفق تعبيري جديد لم نكن قد بلغناه في السابق. ظهور يشير إلى مقاصد جمالية غير متوقعة.
أعمال عصية على أي تصنيف، وهي أبعد ما يمكن تعيينها على وفق مدرسة فنية، أو إرجاعها إلى شواغل الأسلوب. مسكونة برغبة استجابتها الراهنة أبداً، بأثر تاريخها الخاص الذي لا يشبه تاريخاً آخر، والمتشكل من أحداث جمالية قد ولدت وقائعها من صلب حساسية تعبيرية مستترة، وحده الفنان من رأى طيفها.
قد لا يتعلق الأمر بكون العمل الفني أظهر مغزاه علانية كاشفاً عن جدارة رؤيته، ولا بوصفه الأكثر إتقاناً صورياً ولا حتى لكونه واقعياً أو تجريدياً، قدر احتفاظه بمبادئ جمالية راسخة، تستدعي مشاهدة متأملة وفعل تلقٍ يشاركنا حرية النظر اليه والتعلق الدائم به.
يعزو بعضهم الأمر، بأن الفن مجال غير تطوري. لا يزيح أو يبطل أو يكون بديلاً عن خبرات سابقة في مسيرته، كما الحال مع العلم، حتى وان كان حافلاً بتتابع ينطوي على تحولات مفاجئة، تصل حد التعارض ورفض أصول تجارب ورؤى وتقاليد سابقة. أو حتى في احتفاظه بقدرة التحرر من تجربة الأسلاف التي عبرت عن نفسها في عصر سابق، من أجل تجديد فعله الخاص، المحرض، على الاختلاف والتغيير.
يتطلع الفن في أشد تحولاته عمقاً للبقاء وتكريس سمة خلوده. فالفن مادة لا تتبدد في التاريخ ولكنها تتجدد عبر انتقالها في الزمن. ما يشهد على قول كهذا، تجارب الفن الحديث، الذي شهد تحولات شديدة المغايرة، ومقدمات جديدة في التفكير البصري، إلا أنها حافظت برغم ذلك على تصنيف التجربة الفنية.
لكن كان ثمة شيء آخر، أوجدته فنون ماسميت «ما بعد الحداثة «، والتي أعلنت عن نفسها منذ ستينيات القرن الماضي، حينما باتت ظاهرة العرض للعمل الفني هي التي تمهد للتعريف بطبيعته الجمالية، واختلافه عن سواه، بوصفها وظيفة عارضة توازي حضوراً عارضاً للتجربة.
تجارب غالباً ما تفتقر إلى الغرض، سوى بإشارتها للمتلقي والى البيئة التي تظهر خلالها كحدث تشكيلي قائم على المتعة. إذ لم يعد « العمل الفني» يطمح إلى ترسيخ أصالته بل إلى ظهوره الاشهاري بذريعة التصدي للعملية الفنية برمتها.
هل باتت ثمة قطيعة مابين الفن والتاريخ؟ وبعدما أصبح العمل الفني المعاصر عرضة لتكرار وتداول عمومي يدعو إلى استهلاكه بطريقة غير تأملية لا تخلو من العجالة واللامبالاة، ما يؤسس كذلك لإفقاره الداخلي وتغييب مقاصده؟
أقول، هل بات التاريخ بدوره لا يأبه بالمعاصرة مكتفياً بالماضي و بما قدمه ؟