حسام السراي
لم ينس نوري الراوي ما كتبه له معلمه في المدرسة الابتدائيّة: «اذكر الحقيقة بلا عاطفة تأخذك عن طريق الصواب». لم تغب هذه العبارة عن باله، بل بقي محتفظاً بها، تماماً كدفتر الإنشاء الذي دوّن فيه توفيق منير هذه الملاحظة. كان المناضل والمحامي العراقي أستاذ الراوي في مدرسة مدينة عنه العراقيّة القديمة الواقعة على نهر الفرات لجهة سوريا. يتذكّر التشكيلي العراقي أيام الطفولة التي أطلّ منها على المعرفة والتنوير وآفاق الكتابة. انتقاله إلى الدراسة المتوسطة في بغداد أوجد محطّة جديدة مع الكتابة الوجدانيّة. «كنت من أوائل الذين كتبوا الشعر المنثور بحسب الباحث علي جواد الطاهر». يستعيد معنا بداياته الإبداعيّة عام 1937، وكيف انفتحت أمامه أبواب الحريّة بدخوله «المدرسة الكرخيّة المتوسطة» في العاصمة، وتحديداً مرسمها بإدارة التشكيلي رشاد حاتم (1912 ــــ 1976). «توازى عندي حينها الأدب والفن في رافدين يصبان في محيط إبداعيّ واحد». ينبغي ألا ننسى ولعه حينذاك بجمع الملصقات الفنيّة الملونة وصور المجلات. يفتش في صوره الشخصيّة التي لا تحصى، فيأخذنا معه إلى الأربعينيات، وإلى لوحته الجداريّة الأولى عام 1945. رسمها على جدار الصف الخامس في مدرسته القديمة، إذ عاد يدرّس فيها بعد تخرجه من «دار المعلمين العليا». لم يكن نوري الراوي قد نجح تشكيلياً فقط، بل ناشطاً على أكثر من جبهة لإرساء دعائم الفن الحديث في بلاده. عام 1957 نجح في إقناع الملك فيصل الثاني بتخصيص أرض لجمعيّة الفنانين التشكيليّين العراقيّين في شارع دمشق في منطقة المنصور في بغداد. «قصّة كفاحي في ميدان الفن التشكيليّ لا تشبهها إلا قصّة المتحف الوطنيّ للفن الحديث الذي أسسته وأدرته منذ عام 1962»، يخبرنا. فهذا المتحف الذي امتلك طوال عقود من الزمن أكثر من سبعة آلاف لوحة وتمثال لفنانين عرب، تأسس في ثلاثينيات القرن الماضي، وحمل اسم «متحف الفن الحديث»، لكنّه أغلق ورفعت موجوداته. لم تفتح أبوابه من جديد إلا بعد طلب قدّمه الراوي إلى وزير الإرشاد حينها المؤرّخ فيصل السامر. عمل الفنان في الصحافة أيضاً، بين مجلة «الرسالة» المصريّة ومجلات بيروتيّة عدة منها «الأديب» و«العرفان». وكان من بين أوّل من حرر وأسس صفحات فنيّة في الصحف العربيّة. تجربة دفعته إلى عالم التخصص الجامعي في يوغوسلافيا، حيث درس فن التصميم والإخراج الطباعي مطلع الستينيات، إضافةً إلى دراسة إدارة وتنظيم المتاحف الفنية الحديثة في البرتغال. في سبعينيات القرن الماضي تنبأ بأنّ «قاعات العرض التشكيلي ستكون البديل العملي لمتحف الفن الذي فقد صلته بالجمهور». أثمر ذلك تأسيسه أول صالة فنية في العراق، «قاعة الرواق» في ساحة الفردوس في العاصمة العراقيّة. هذه الصالة اختفت اليوم عن الخريطة الثقافيّة، ولم يبقَ في بغداد إلا ثلاث صالات هي «أكّد»، و«حوار»، و«مدارات». لم يتوقف الراوي عن إصدار كتبه النقديّة وأبحاثه المتخصصة من «تأملات في الفن العراقيّ الحديث»، إلى «جواد سليم»، إلى «متحف الحقيقة متحف الخيال» وغيرها. كذلك جال بمعارضه بين لندن وبودابست وباريس وعمان وكارولينا والمنامة. عام 1982 أصبح رئيساً لـ«جمعية الفنانين التشكيليّين العراقيّين»، ثمّ أعيد انتخابه عام 2006 رئيساً لها مدى الحياة… لكنّه يقول إنّ «وزارة الثقافة الحالية همّشت الجمعيّة، وحدّت من دورها الحي والفاعل، وقطعت معها الصلة التعاونيّة». يشرح لنا نوري فهمه لـ«المذهب الشعريّ في الفن»، فيتذكّر قولاً للشيخ عمر السهروردي: «يقولون افتحوا عيونكم وأبصروا، وأنا أقول أغمضوا عيونكم وأبصروا». التشكيلي الذي تضمّ مقتنياته أكثر من 15 ألف كتاباً ولوحة، تجتاحه دوامة العنف وعدم الاستقرار. محنة نوري الراوي اليوم، لا تشبه مطالب المبدعين المألوفة لناحية الدعم الماديّ. فكل ما يأمله هذا الرائد، هو الحفاظ على إرثه الفني الكبير، بعد ما تعرّض له من سلب ونهب بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003: «مشروعي الوثائقيّ الكبير هو البديل عما احترق وضاع، أحتفظ فيه بأندر الوثائق والصور والمأثورات والمصادر المرجعيّة». كتب عن إرثه وأرشيفه ستّ مذكّرات رفعت إلى مكاتب منظّمة «الأونيسكو» في بغداد وبيروت ودمشق وعمان… لكنّها «لم تردّ عليها، إن سلباً أو إيجاباً، إدراكها لأهميتها في التراث الثقافيّ والفنيّ العراقيّ». أمّا الجهات الرسميّة في بغداد، فردّت «بعدم موافقة وزارتي الثقافة والسياحة والمتحف العراقيّ على رعاية هذا المشروع»! يتردّد كثيراً على العاصمة الأردنيّة عمان، وفي كلّ مرّة يفاجأ بأنّ أعماله تُزَوَّر وتُباع بتوقيعه. «لا أشعر بشيء إلا بالألم». الراوي الذي نال في عام 1993 وسام الاستحقاق العالي، يتحدث بنبرة حزنٍ عن أيام تألق الجماعات الفنيّة العراقيّة في الخمسينيات. «لقد كانت صورة من صور الاستجابة الواعيّة للذات الجمعيّة… غير أن الفواجع التي ألمّت بالعراق، غيّبت الكثير منها. هناك عوامل كثيرة، من عقم الاحتلال والطبقة السياسيّة التي جاء بها إلى الحكم… إلى التناقضات الأساسيّة التي لم تحل في عمق المجتمع العراقي: كل ذلك أجهز على الحياة الثقافيّة، فأحلّ التكوينات العشائريّة بديلاً من الدولة المدنيّة العصريّة والديموقراطيّة والتعددية». داخل منزله في منطقة الحارثية (بغداد)، يمعن النظر في المنحوتات واللوحات التي أهداها إليه زملاؤه، ومن بينهم جواد سليم وإسماعيل فتاح الترك. يتنهد أمام مرآها بكلمات كأنّها خلاصة لرحلة كبار مبدعي العراق: «لم تأتِ مؤسّسة ثقافيّة عراقيّة واحدة تسجل حياة الفنانين وتؤرشفها، حياة ومنجز جواد سليم وفائق حسن وغيرهما الكثير، كلّها ذهبت مع الريح»، يستخلص بأسىً. وعن بلاده التي لم تعرف طعم الاستقرار طوال العقود الثلاثة الماضية، يقول: «دمار البشرية كلّها، لا العراق وحده، يأتي على أيدي السياسيّين». وهنا يتذكّر كيف أقفلت رابطة نقاد الفن بجرة قلم من لطيف نصيف جاسم وزير الثقافة والإعلام في التسعينيات. «ثمّ توالت الخيبات بعد عام 2003 بسبب تعيين مسؤولين لوزارة الثقافة بعيدين عن روح العمل الثقافيّ الحقيقي». يصمت للحظة، قبل أن يسرّ إلينا بعبارة أخرى علقت في ذهنه من درس معلّمه الأول توفيق منير… «الحريّة شجرة لا تسقى إلا بالدماء». هوذا الراهن العراقي المضطرب، يطلّ برأسه مجدداً ويبعدنا سنوات ضوئيّة عن العصر الذهبي الذي يمثّله نوري الراوي.