عبد المنعم أديب
في ظلِّ صراعات وتناحُرات مذهبيَّة وطائفيَّة وعالميَّة تروجُ عبارة: «عن أيِّ شعر تتحدث؟! .. حدِّثني عن الواقع». ولعلَّ القائل لهذا القول له بعض العذر؛ فهذا العالم الذي لمْ يترك له قيمةً ولا فكرة ولا جماليَّة إلا سلبه إيَّاها. فتركه لا يعرف إلا قيمة المادة والنفع، بل هذه القيمة نفسها قد تركها أو طوَّرها إلى النفع السريع، فالنفع الذي يأتي متأخِّرًا لا نرجوه أصلاً. إلى هنا وصلنا للأسف، إلى هذا الحدّ الذي جعل خلقة الله الجميلة «النفس البشريَّة» صحراء جرداء بعدما خُلقتْ مهيَّأةً للزرع والنماء.
لكنْ من أين يأتي الزرع والنماء في عالم لمْ يعد فيه للجمال قيمة ولمْ يعد له تقدير؟! ومن أيّ نبع سنُروى بالجمال وما حولنا قبيح يدعو إلى القُبح؟ هنا نقف عند نقطة ارتكاز عميقة؛ أنَّ السرّ في الإنسان لا في الأشياء من حوله. فالإنسان هو الذي صنع القُبح والإنسان هو صانع الجمال كذلك. وهذا ينقلنا إلى الخطوة التالية التي تخبرنا بوجوب البحث في النفس الإنسانيَّة عن الجمال، ووجوب إيقاد روح الجمال فينا؛ لتتقد خارجنا. فبما أنَّ الإنسان هو الصانع فلنُصحِّح خطأنا.
والخطأ الذي وصلنا إليه هو إعدامنا للقيمة الجماليَّة. فبعدما ضيَّقنا الخناق على قيمتَيْ الحقّ والخير – وهذان هما أصل استقرار الجمال في النفس البشريَّة – قرَّرنا قرارًا ضمنيًّا بألا فائدة لقيمة الجمال، وأسقطناه من حساباتنا البنائيَّة في التعليم وفي بناء المُدُن، وفي التشكيل العقليّ والنفسيّ لذواتنا، وأشياء أخرى كثيرة لا يمكن تلخيصها إلا بأنَّنا أسقطنا قيمة الجمال كليَّةً. وسبب إسقاطنا إيَّاه هو العودة إلى مبدأ النفعيَّة فليس الأهمّ في الشيء هو تكوينه ولا حتى حقيقته إنَّما الأهمّ هو ما الذي سيعود به بالنفع علينا. هكذا صمَّمنا عقولنا في العقود الأخيرة شيئًا فشيئًا.
وما نتيجة هذا التصميم – الذي يتمثَّل جزء كبير منه في تسرُّب النظرة البرجماتيَّة من المجتمع الأميركيّ ومن أثر العولمة؟ – النتيجة المُباشرة لهذا هو الإحساس بالاختناق أو شبه الاختناق في تلك النفوس الواعية في المجتمع التي مازالت تستطيع النظر إلى خطّ السير العامّ لمجتمعنا، وشيئًا فشيئًا أوصلنا هذه الكتلة الواعية من أبناء الوطن في كلّ المجالات إلى درجة اللامبالاة، وعدم الاكتراث لهذه المجتمعات التي أوصلتهم إلى حدّ اليأس من العودة إلى درجة «الإنسان» بفطرته السليمة النقيَّة. والنتيجة الأخرى على الكتلة الشعبيَّة غير الواعية أنَّها صارت قابلة لكلّ قُبح ودناءة، بل الأشدّ ضراوةً أنَّها تراه جميلاً – مثال الأغاني الشعبيَّة التي غزتْ العقليَّة الشعبيَّة – وهذا مجرد مثال من مئات الأمثلة التي ممكن طرحها.
وإذا سألنا لماذا تُسمِّي الكتلة الشعبيَّة هذا البلاء الأسود الذي تعيش فيه ببعض صفات تدلّ على الجماليَّة أو الإعجاب الشديد؟ فستجيبنا أنفسنا ببساطة لأنَّ هذه الكتلة الشعبيَّة لمْ تعرف للجمال معنى من الأساس، ولمْ ترَ الشيء الجميل لتعرفه. فإذا رأت الجمال ستتعرَّف عليه وتألفه، وبعدها ستمجُّ القبح والقبيح وستطرده. فلا نلوم على إنسان لمْ يتربَّ إلا على السوء لِمَ هو سيء! إنَّما اللوم على مَن ربَّاه وهو هنا المجتمع كلَّه حاكموه ومحكوموه.
لهذا يجب أنْ نردَّ على صاحب السؤال الذي يتردَّد كثيرًا بين ثنايا نقاشات المجتمع: ما فائدة الشعر في عالمنا؟ ونقول له: «بل حاجتنا إلى الشعر تزيد في هذا العالَم». إنَّ كلَّ هذه الظروف التي تدفع في اتجاه القُبح تحتاج إلى قوَّة ضخمة لتعادِل الكفَّة وتدفع في الاتجاه الآخر وهو الجمال.
فكيف نصنع الجمال في مجتمعنا؟ لعلّ هذا السؤال أكبر كثيرًا من نطاق هذه الكلمات؛ لذا سنكتفي بإطار عامّ يلمُّ شتات السؤال. هذا الإطار العامّ هو «سرّ الكلمة»؛ فالكلمة لها السرّ الأكبر في أسر النفس الإنسانيَّة ولا تحتاج في التدليل على هذا إلا بأنْ نتذكَّر أنَّ الشرَّ والاستبداد وأنَّ الخير والحريَّة كلاهما يأتيانِك متدثِّرين بثوب الكلمة، في سلوك عفويّ لا يدلّ إلا على قيمة الكلمة في تطويع وتشكيل النفس البشريَّة.
والشِّعر سيِّد الكلمة ورائدها، بل هو التعبير الدقيق والمباشر والأوَّل عن «سرّ الكلمة». الشِّعر هو صوغ النفس البشريَّة في كلمات، هو زاد القِيَم الذي تتغذى به الأمم، هو عمليَّة استلهام مُتبادل بين نفس تصوغ الشِّعر ونفس تتلقَّاه، وهو بالقطع بسبب تشكيله أو شكله الفنيّ المتميَّز للغاية يعدُّ أعظم أمثلة الفنون على الإطلاق. إنَّه بناء جميل – بشكله الفنيّ الابتدائيّ – يناقش ويصدِّر ويُنتج الجمال بالمضمون الذي يسوقه الشكل الفنيّ.
وإنْ سألنا عمَّا هو الشِّعر؟ فالشِّعر هو استلهام تعبيريّ من نفسك وعن نفسك، تعيد فيه توجيه ما بداخلك بعد رؤيته من الخارج. كلمات تلهمُ الإنسان الصواب، تنيرُ له طريقه، تدفعُهُ للمقاومة والدفاع عن قيَمِهِ ومبادئه، تذكِّرُهُ بأنَّه ما زال إنسانًا، وأنَّ الحروب لمْ تفقده إنسانيته، تكونُ رسول الجمال الذي يدفعُهُ لإنهاء النزاعات، والبدء في الإعمار؛ لأنَّها عمَّرتْ نفسه بحبِّ الجمال، وبُغضِ الكراهية، تقوِّيْ المحبة في نفسه.
والشِّعرُ هو ذاكرة الأمة؛ الحافظ لتاريخها، والكاشف عن آلامها، وهو سلاح المقاومة المحمول في العقول لا على الأكتاف. ولهذا اختارتْ كلُّ الديانات الكلمة الطيبة الجميلة رسولًا دائمًا منها إلى الإنسانيَّة. وإذا كُنَّا سنطرح سؤالًا بعد حديثنا هذا؛ فلنْ يكونَ السؤال: «مَنْ سيقرأ الشعر؟!»، بل: «متى ستبدأ في قراءته»؟.
إنَّ ما نسوقه الآن ليست كلماتِ على ورق تحشو معاني دون استناد على شيء؛ إنَّما هي مجرد كلمات تحاول الوصول إلى وصف للشعر، لتصوِّر لنا ما هو، وكيف هو؛ لنصل إلى فائدته التي لا نراها في عالمنا اليوم.
وللتدليل على هذا فلنسأل أنفسنا ما الذي نذكره للسابقين علينا من الأمم الأخرى ومن أمَّتنا؟ فسنجد أنَّ صراعات السياسة كلَّها وصخبها وضجيجها قد رحلت إلى غير عودة غير مأسوف عليها. أمَّا ما بقي فهو «الإلياذة» و»الأوديسا»، و»الكوميديا الإلهيَّة»، وملحمة «جلجامش»، والمُعلَّقات العربية. إنَّ الشعر بميزاته العديدة – الشكليَّة وغير الشكليَّة – هو الصيغة الأقوى والأقدر على البقاء في الذاكرة والوجدان الإنسانيَيْن.
وفي النهاية نقول إنَّ هناك الكثير من فوائد الشعر الأخرى التي لنْ يدركها حديث عن أهمّ فوائد الشعر في لحظتنا الراهنة؛ وهي إعادة إعمار الجمال في نفوسنا، وإعادة تهيئة النفس البشريَّة لتقبُّل القيم الإنسانيَّة، والنتيجة الأكبر هي الوصول إلى درجة «إنسان» في مجتمع تدنَّى فيه الفرد إلى مرتبة «دون إنسانيَّة».