محمد زكي ابراهيم
ربما لم يتخلف أحد من المعاصرين عن الإشادة بموضوع نسبية الثقافة، والتعويل عليه، في تنظيم العلاقة بين المكونات. وكانت هذه الفكرة التي راجت خلال عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي في المجتمعات الغربية، بمعنى وقوف الثقافات الفرعية على قدم المساواة مع الثقافات السائدة، من أسباب نشوء النظام العالمي الجديد، واحتضان المهاجرين، واحترام العقائد والأديان، واستثنائها من القوانين التي تتعارض مع منطلقاتها الأساسية.
وحجة البعض من الذين دافعوا عنها، أن الثقافة الفرعية هي قوة إضافية للبلاد. وأن حرمان أصحابها من الاهتمام بها، وتطويرها، يضعف الروابط التي تجمع الناس في تلك البلاد. فهي أولى بالحماية من الكائنات الحية المعرضة للانقراض، التي يتسابق المجتمع الدولي في العناية بها.
بل أن هؤلاء ربما تصوروا في يوم ما – ومنهم كاتب هذه السطور – أن المشاكل التي شهدتها البلدان ذات التنوع اللغوي، وأدت إلى نزاعات طويلة الأمد فيها، ناتجة عن عدم اهتمام الدولة بهذا الجانب، ونزوعها نحو تغليب لغة الأغلبية الحاكمة على حساب الأقليات.
إلا أن هذه الفكرة ذاتها، هي التي كانت سبباً في تشرذم العديد من البلدان، وانفصام عقد البعض منها. مثلما حدث في أوربا الشرقية ودول البلقان، وفي دول إفريقية وآسيوية عديدة.
وبشكل عام فإن الدول الغربية لا تعاني من وجود مشكلة حادة في هذا الموضوع، وقد تكيفت أقليات أرض الوطن التي استوطنتها منذ زمن طويل، للعيش فيها، ولم تعد مهتمة بالانفصال على أساس لغوي. أما المهاجرون الجدد – وجلهم قادمون من بيئات فقيرة أو من بلدان تشهد حروباً مزمنة – فإن المهمة الأولى التي يقدمون عليها في دول المهجر هي تعلم لغة البلد المضيف. وبدون ذلك يتعذر عليهم الحصول على فرصة عمل. وأبرز هذه الدول الولايات المتحدة.
والواقع أن نقطة الضعف الأساسية في بلدان التنوع العرقي في العالم الفقير هي اللغة. وقد أقبلت الأقليات على تعلم لغة الدولة الرسمية، دون اي إحساس بالظلم، أو التمييز، أو الإهانة. بل أنها شعرت أن من واجبها تعلم هذه اللغة للحصول على مشاركة فعلية في إدارة الدولة. إلا أن تنامي الحديث عن النسبية الثقافية في السنوات الأخيرة دفع هذه الأقليات للمطالبة باقتصار التعليم في مناطقها على لغتها الخاصة. واستبد الحماس بالنخبة داخل الأغلبية إلى درجة الانغماس في الموضوع، دون أن تعي مقدار الضرر الذي تسببت به في بلدانها. ومنها دول عربية، انقسم البعض منها، ومازال البعض الآخر قابلاً للتقسيم.
إن مشكلة الدول الفقيرة أنها تقبل على الأفكار الغربية بنهم زائد، وتتوهم أن سر تقدم الغرب يكمن في هذه المفاهيم التي تطرح في المؤتمرات الدولية، والأمم المتحدة، ووسائل الإعلام، بصيغة مسلمات لا تقبل الجدل. وإذا كانت تلائم المجتمع الغربي فإنها بالتأكيد لا تلائم مجتمعات الشرق، التي تشكل وحدة اللغة أحد أهم عوامل وحدتها الوطنية على الإطلاق.