منتهى عمران
رواية عراقية بنسق مختلف. تقوم على الفكرة قبل الشخصية والحدث، فكلّ ما يدور في الرواية عمد الحديثي إلى زجّه في خدمة الفكرة ولكن من دون افتعال، مزج الواقع بالخيال، وسار بهما بخطوط متوازية يدعمان بعضهما كما سكة القطار. الفكرة تسير كقطار يتوقّف في محطاته المتوالية، تبدأ عتبتها من العنوان (ثقوب عارية)، حيث يشير في كلّ محطّة على ثقوب ما لجهة في حياتنا، وبعيدا عن الايروتيك أو الايروسك أو الإباحية والابتذال التي نتلمّسها في الروايات. عادة ينشغل الحديثي بفلسفة المعنى الخفي وراء هذه الثقوب، بدءًا من لحظة خروج آدم وحواء من الجنة ونزولهما إلى الأرض، يتساءل الكاتب على لسان بطل الرواية “أوس”:
ـــــ من منكم يستطيع أن يخلع ملابسه الآن؟ هذا السؤال هو محور فكرة الرواية الذي ستتبعه أسئلة أخرى عديدة يتنقّل معها بين أصدقائه وحبيبته وذكرياته. يحاكي جسد الإنسان عاريا، وكيف له أن يتعاطى المجتمع معه؟ وماذا لو كان كلّ الناس كذلك كما خلقهم الله؟ يحاكي الكاتب أيضًا أبنية مدينته بغداد ومقاهيها والنهر والجسر، وحتى حروف اللغة ليكتشف ثقوبها التي تحمل الكثير من اختزالات المعاني لحياتنا.
الرواية واقعية بحدّ ذاتها. يستثمر الكاتب شخوصًا من الحياة العادية مثل الموظفين وطلّاب الجامعة وحرّاس وشرطة وباعة، ليست هناك شخوص خيالية أو وهمية. وكذلك الأماكن والأحداث ماعدا ذروة الرواية حيث المشهد الفانتازي الذي يدور في شارع حيفا، إذ تتحوّل فكرته الخيالية إلى واقع متخيّل. وقد اشتغل عليه الكاتب بأسلوب سردي مدهش يرتقي إلى المشهد السينمائي المؤثر أو لوحة تشكيلية
متحرّكة لإثبات فيها. كأنّه يقود القارئ إلى السماء، ثم يعود به إلى الأرض.
فاستحق هذا المشهد أن يشكل ذروة غير تقليدية نجح الكاتب في تشكيله إلى أبعد الحدود. النقاش بين بطل الرواية والشخصيات الأخرى هو الأسلوب الذي اعتمده الكاتب في طرح أفكاره على شكل أسئلة عادة ما تكون الإجابة عليها بالسخرية واتّهامه بالجنون.
أمّا المرأة فكانت على غير العادة لها شخصيتها المتفرّدة، فكانت علياء حبيبة أوس شريكة له في أفكاره، تناقشه بها وتطرح وجهة نظر تختلف عن أصدقائه، ترافقه بخيالاته وهلوساته التي يتّهمه بها
الآخرون، تقف إلى جانبه من دون أن تكون تابعة له، وهذا يُحسب للكاتب.
تبقى الرواية مفتوحة النهاية للقارئ ليناقش، وربّما يجيب بطريقته على أسئلة وأفكار ربّما مرت ببال أحدهم، ولكنه لم يستطع أن يطرحها بشكل رواية كما فعل الحديثي.. أحسبها بصمة في السرد العراقي إن لم أكن قد فاتني الاطّلاع على غيرها من الروايات التي نحت هذا المنحى الأكثر حداثة في كتابة الرواية، فقد اعتمد الأسلوب السردي السهل والبسيط بعيدًا عن الشعرية أو الفذلكات اللغوية أو الالتفاف على الأفكار وتمويهها، ولكنه لم يقع في المباشرة المبتذلة أيضًا، فكانت قراءتها ممتعة وسلسلة ومثيرة للأفكار بمعناها الرحب والأوسع.