كنعان مكية
في حديث لي مع الصديق ناصر الرباط، لفت نظري إلى كتاب عبد اللطيف البغدادي الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهَدة والحوادث المعايَنة بأرض مصر، والذي احتوى مشاهداته في أثناء الطاعون الذي ضرب مصر في السنين الأخيرة من القرن السادس الهجري.
دوّن البغدادي ما شاهده عن شيوع أكل لحوم البشر أثناء المجاعة المصاحبة للوباء، وقد جذبت انتباهي الطريقة الغريبة التي تعامل بها البغدادي مع تل من عظام البشر المتراكمة “يكاد يكون ترابه أقل من الموتى به. نحدس ما يظهر منهم للعيان بعشرين ألفاً فصاعداً، وهم على طبقات في قرب العهد وبعده.
فشاهدنا من شكل العظام ومفاصلها وكيفية اتصالها وتناسبها وأوضاعها ما أفادنا علماً لا نستفيده من الكتب. أما أنها سكتت عنها… أو يكون ما شاهدناه مخالفاً لما قيل فيها، والحسّ أقوى في الدلالة من السمع”.
عبارة ما “لا نستفيده من الكتب” تشير إلى الباحث الشهير في علوم الطب جالينوس؛ الإغريقي الذي عاصر الإمبراطورية الرومانية، والذي كان أول من وصف تركيب العظام في جمجمة الإنسان. ما يقصده البغدادي هو أن جالينوس أخطأ في وصفه لعظم الفك الأسفل عند الإنسان، الذي قال عنه جالينوس إنه “عظمان بمفصل وثيق عند الحنك”.
الخطأ يكمن في أن “الذي شاهدناه”، حسب البغدادي “أنه عظم واحد ليس فيه مفصل ولا درز أصلاً، واعتبرناه ما شاء الله من المرات في أشخاص كثيرة تزيد على ألفي جمجمة بأصناف من الاعتبارات، فلم نجده إلا عظماً واحداً من كل وجه”.
البغدادي عالِم بكل معنى هذه الكلمة؛ ينظر إلى أكوام من الجثث على هيئة هياكل تم تبييضها بحرارة الشمس، ثم يحدق ويقلب جماجم البشر بعقلانية مقلقة بالنسبة لمن هو ليس بعالِم واختصاصه الإنسانيات في القرن الحادي والعشرين. يقوم البغدادي بذلك وهو يتذكّر وصفاً لجمجمة كتبه عالم آخر قبله بألف عام، وفي باله تصحيح الأخطاء في ذلك الوصف العتيق.
بالمقارنة، معظم ما يُكتب عن الأوبئة خارج عالم المتخصصين بعلوم البيولوجيا والجينات والطب، يأخذ شكل الموعظة أو الحكاية الرمزية، ابتداءً من الكتب السماوية التي وصفت الطاعون كعقاب الله ضد عدوه اللدود، فرعون.
عبر التاريخ استخدمت الأوبئة كاستعارات للتعبير عن أخطاء أو خطايا أو أزمات سياسية واجتماعية. في العصور الوسطى، على سبيل المثال، نُعت الطاعون بمفاهيم التلوث الأخلاقي، وكان الناس يبحثون،بتحريض من اللاهوتيين والمبشرين، عن كبش فداء في كل مكان (الأجانب، الفقراء، المومسات، الغجر، اليهود، المسلمين).
في العصر الحديث، حل السرطان مكان الطاعون في السجال الثقافي العام. سُميٌ ما فعله الرئيس الأميركي نيكسون في سبعينيات القرن الماضي بـ “سرطان” أصاب النظام الأميركي، ونحن العرب نتكلم عن إسرائيل كـ “سرطان” في جسد الأمة العربية، بمعنى أن اقتلاعها (وكأنها عملية جراحية) لا بد منه كي يستمر ذلك الجسد بالعيش السليم.
منذ ألفي عام، عُدّت مقارنة الجسد “المثالي” الموجود في الخيال الإنساني، بالجسد “المريض” من أقدم الاستعارات المستخدمة في الفكر السياسي. إذا كان من الممكن مقارنة النظم السياسية بجسم الإنسان، ونسبه الذي يفترض أنه متوازن بالطبيعة (أفلاطون، أرسطو، هوبز، الى آخره)، عندها يصبح من السهولة أن ننسب أي اضطراب في المجتمع إلى مرض فتاك ما، ويحقّ لنا تصحيح اختلال ذلك التوازن “الطبيعي” بالقوة لو تطلب الأمر.
بالمنطق نفسه، يضفي العنف الثوري غالباً شرعية على نفسه باتهامه المجتمع الذي يريد الثوريون إصلاحه بأنه “مريض”، بمعنى أنه مصاب بكائن خارجي غريب عن طبيعته الصافية والنقية، وهذا المفهوم غالباً ما يكتسب بعداً عقابياً أو يستخدم كدلالة على ما هو “شر” وبذلك يجب اقتلاعه بالقوة؛ المرض هنا هو حالة عدم التوازن نفسها، التي لا بد من أن تنتهي بالموت.
في القرن العشرين، تُعد رواية الكاتب الفرنسي ألبير كامو الطاعون، أذكى وأعمق ما كُتب عن الأوبئة خارج مجال العلم. تجري أحداث هذه الرواية في مدينة جزائرية – فرنسية خلال الحرب العالمية الثانية.
بطل الرواية الدكتور ريو، حاله حال باقي سكان المدينة، لا يأخذ في اعتباره الإشارات الأولى في المدينة لتفشي وباء الطاعون. يشاهد مثلاً، فئراناً فاقدة للتوازن وهي تتعثر على عتبة بابه والدم يتدفق من أفواهها، ثم تدور حول نفسها مرة أو مرتين قبل أن تسقط ميتة أمامه. ماذا يفعل ريو في البداية؟ يدير ظهره ويدخل البيت وينسى الموضوع. الحقيقة لا أحد في المدينة يولي اهتماماً للفئران وهي تموت بالجملة في كل مكان حتى فوات الأوان؛ لا أحد يفعل شيئاً حتى يبدأ موت الناس إلى الدرجة التي تضطر السلطات أن تضع المدينة تحت الحجر الإجباري.
وحتى عندما يدرك الدكتور ريو قبل غيره ما يحل بمدينته، يجد نفسه دائماً متأخراً بالمقارنة مع تقدم الطاعون، ولذلك يغدو كل ما يفعله، وما تفعله سلطات المدينة لصد تطور الوباء، قليل جداً، كما هي الحال في دول العالم اليوم؛ تجد نفسها دائماً وهي تلاحق ذلك الفيروس المتفوق عليها عند كل منعطف. الطاعون في رواية كامو هو استعارة للنازية، على الرغم من حقيقة أن الكاتب لا يذكر التجربة الألمانية بكلمة واحدة؛ هذا الاستنتاج يأتي في الخيال فقط عند تفاعل القارئ مع القصة.
النازية نتاج حركة جماهيرية تنتشر في أولها ببطء في المجتمعات كالطاعون؛ قصد الكاتب مجازي. “الطاعون هو نحن”، في نهاية المطاف، كما تكتب أستاذة التاريخ في جامعة هارفارد جيل لابور (نيويوركر، ٣٠ مارس ٢٠٢٠). يتفشى الوباء بأفعالنا، بوساطة نفس البشر الذين هم ضحاياه؛ أليس هذا الفيروس نتيجة طبيعية للتغيرات البيئية الناتجة عن النشاط البشري، كما كتب الصحفي خالد سليمان مؤخراً في مقالة على موقع درج الالكتروني؟ نحن متورطون في اختلاق وانتشار فيروس كورونالو لم نتبع تعليمات خبراء الصحة العامة، التي جاءت متأخرة أصلاً. الطاعون في رواية كامو هو ذلك المكان الذي يتخلى فيه كل إنسان عن أخيه الإنسان.
العدو، إذ يبدأ مع الفئران المريضة التي يمحوها الوباء عن الوجود، ينتهي بالانتشار بين سكان المدينة تحت الحجر؛ حتى لمسهم، أنفاسهم، سعالهم، ووجودهم في نفس الغرفة، يتحول إلى ذلك الخطر الكبير الذي يخشاه الجميع. النهاية الحتمية هي طغيان الخوف على حساب كل أنواع التضامن. في جميع هذه الأشكال الفكرية للتعاطي مع مشاكل عالمية وإنسانية النطاق مثل الوباء، والتي نستعملها كلنا بين الحين والآخر (ولا أستثني نفسي في بعض كتاباتي السابقة)، يبدو لي أن التعاطي مع فكرة “المرض” يكون على أساس أنه لا يملك الحيادية أو البراءة الضرورية كي تتم معالجته بعقلانية وروح علمية.
وغني عن القول إن تشبيه المرض بالشر، وهو أقدم الحيل الفكرية في قاموس الفكر، لا يساعد المرضى أنفسهم، وهم يعانون حالة فيزيولوجية متخصصة جداً وبحاجة إلى علاج علمي، لو كان هناك علاج. والملحوظ في تاريخ الفكر أن المخاوف التي تأخذ شكل هذا التشبيه بالشر، تتفاقم مع ارتفاع قدرة المرض على نقل العدوى للآخرين؛ هنا أيضاً يكون المستهدف هو واقع حاجتنا للتضامن ككتلة بشرية واحدة على سطح هذه الكرة الأرضية.
أعداد الأوبئة تقارب أعداد الحروب في التاريخ، ولكن نادراً ما توجد علاقة بين حدث تاريخي خاص، أو مشكلة سياسية عميقة، وأمراض مثل الطاعون أو السرطان أو فيروس كورونا حديث النشأة.
قد تهيئ ظروف الحرب أو انهيار الدول، الظروف لتفشي الوباء كما حدث في أوروبا القرنين السادس والسابع عشر، ولكن الواحد لا يسبب الآخر. ثم إن الأوبئة العتيقة التي قُضِي عليها علمياً في العصر الحديث، والتي كانت فتاكة بدرجات أكبر بكثير من وباء كورونا الحالي (الطاعون، الجدري، الملاريا، الكوليرا، إيبولا، سارس، إلى آخره)، لم توقف عدد الحروب في العالم. ليس هناك أساس للمقارنة أصلاً.
وباء الطاعون قتل ٣٠–٦٠ ٪ من المصابين به ومحا نحو ثلث سكان القارة الأوروبية في القرن الرابع عشر، فيما نسبة الموتى من جراء فيروس كورونا تتراوح بين ١–٢ ٪. هل بقي ميراث هذا الثمن الإنساني الباهظ مدفوناً في نفوسنا وأدياننا وثقافتنا إلى الدرجة التي يستمر بسببها إغراء اختراع الأوهام حول الأوبئة ووسائل معالجتها؟ لماذا يصعب على كثير من الناس تحديد فكرة الأمراض المعدية بعالم الطبيعة والعلوم الحديثة وتجنب توسيعها إلى استعارات ذات دلالات عقابية نابعة من مفاهيم الخطيئة والشر؟ تأمل التباين بين مثل هذه الاستخدامات لفكرة الأمراض المعدية وما فعله عبد اللطيف البغدادي في القرن السادس الهجري وهو يدرس جماجم بشرية ميتة بسبب المرض والمجاعة.
الملفت في كتابه أن السياسة والاستعارات الأخلاقية غائبة تماماً في سرده.
هذا لا يعني طبعاً أنها اختفت من الوجود. وراء الكواليس تبقى دائماً الأسئلة الحياتية الكبرى:
كيف ستمارس حكوماتنا السلطات الكبيرة التي منحناها إياها، في محاربة الوباء؟ أين مركز ثقل اهتماماتها والناس يموتون بالجملة في البيوت والمستشفيات؟ وكيف سنستجيب نحن إلى ما تفعله أو لا تفعله في ظل الوباء؟ هذه الأسئلة مهمة، ويجب أن تُسأل، ولكن ليس لها علاقة بفهم ماهية هذا الوباء وكيفية مكافحته. يشكل فيروس كورونا مصدر خوف لكل إنسان بطبيعة الحال، وعندما يتعلق الأمر بالخوف من الموت، فإننا “نحن البشر نعيش في مدينة غير محصنة”، كما قال ذات مرة أبكيروس؛ الفيلسوف الإغريقي من القرن الرابع قبل الميلاد.
مثل هذا الخوف طبيعي، ولكن علينا أيضاً، وفي الوقت نفسه، أن نخاف خوفنا هذا أكثر مما نخاف الفيروس؛ لأن هذا الخوف هو مصدر كل الأساطير والأكاذيب والتهرب من المسؤولية وابتكار أكباش الفداء التي ينتجها مثل هذا الوباء. ما هو وباء فيروس كورونا في نهاية المطاف؟ إنه طفرة في نفس الجينات التي صُنعنا منها جميعاً.
هو ليس “فيروساً صينياً” كما يقول الأبله ترامب، بل هو فيروسنا أجمعين، وسنسيطر عليها كما سيطرنا في الماضي على كثير من الأوبئة. العبرة في رواية كامو هي أن مشكلة الخوف حقيقية، ولكن الخوف الأكبر يكمن فينا أكثر من الفيروس.
فيما تتخندق معظم الدول خلف حدودها، وتوجّه اللوم هنا وهناك، قد يتسارع ويتفاقم انزلاقنا كبشر نحو كراهية الآخر والاستبداد كنظام حكم، وقد تتفاقم المخاوف بفعل الأكاذيب والأساطير. من هذا كله يجب أن نخاف. أما الفيروس، فسيتم احتواؤه والسيطرة عليه خلال سنة أو سنتين، وذلك لأن هناك أبطال آخرون حقيقيون خارج عوالم السياسة والدين؛ إنهم يبحثون عن الحقائق البيولوجية للفيروس والعلاجات الممكنة واللقاحات المختلفة، ويقومون بذلك كله بنفس الروح التي بحث فيها البغدادي عن تركيب الفك الأسفل لجمجمة الإنسان.
عشرات الآلاف من العلماء والأطباء والممرضات ومساعديهم في المستشفيات والمختبرات من شتى أنحاء العالم، هم اليوم على الخطوط الأمامية في الحرب على الفيروس ومعالجة وفهم أشكال وسلوك الفيروس والتحولات الجينية التي تحدث فيه، وهم في عملهم لا يعرفون الحدود المصطنعة بين الأقوام والأجناس وكل باقي أصناف ومصادر التخويف المصطنعة. تُعلِّمنا الأوبئة ولاسيما فيروس كورونا، أن كل ما هو محلي ومحدود وقصير النظر، هو مؤقت وغير مهم في نهاية المطاف، فيما كل شيء قابل للحركة لا بد من أن يتحرّك ويتغيّر عابراً كل الحدود، وقافزاً فوق كل الحواجز، تماماً كما أن كل مشكلة حياتية بالغة الأهمية، لا بد من أن تكون في جوهرها عالمية النطاق. مصيرنا ومصير الآخر المختلف عنا واحد. وحدتنا كبشر لا كأقوام وقبائل وطوائف تأتي بالصدارة قبل أي شيء آخر.
وفي هذه الحقيقة الفيزيولوجية والإنسانية في الوقت نفسه، نوع من الجمال يريح النفس ويخفّف حدة الخوف الذي لا بد من أن يدبّ في كل إنسان وهو يرى جميع المدارس والحدائق والشوارع العامة في مدينته فارغة وقد أقفلت أبوابها أمام الناس، فيما هو يجلس في غرفة وحده كالسجين، يشاهد في التلفزيون مئات ملايين الناس يفعلون الشيء نفسه، وكلهم يقومون بذلك في كل بقعة من هذه الكرة الأرضية التي تعجّ بالحياة على الرغم من ذلك كله.
أمامنا منفى مخيف وطويل الأمد. هل نحن في هذه الظروف قادرون أم غير قادرين على المشاركة في معاناة الآخرين الذين لا نعرفهم ولا نستطيع رؤيتهم؟ أزمتنا هي لحظة قرار؛ إنها ذلك المكان الذي تلتقي فيه معاناة الفرد مع معاناة الجنس البشري برمّته.
لا أعرف وصفاً لهذا اللقاء أفضل مما قاله ناظم حكمت العام ١٩٤٨؛ الشاعر والسجين السياسي التركي الذي كتب “أشياء لم أكن أعرف أنني أحبها”، وهو وحيد في زنزانة سجن قضى فيه ثلاثة عشر عاماً: الحياةُ ليست مجرد مزحة: لذا يجب أن تعيشَ بجديّة كبيرة مثل سنجاب مثلاً، أعني من غير البحث عمّا يتجاوزُ حدودَ حياتك، أعني أن العيشَ يجبُ أن يكون حِرفَتك الوحيدة هذي الأرض ستغدو باردة نجمةً بين النجوم واحدةً من أصغرها كذرّةِ ذهبٍ على مخملٍ أزرق أعني هذي الأرض؛ أرضنا العظيمة.
هذي الأرض ستصيرُ باردةً ذات يوم لا مثلَ كتلةِ جليد أو حتى سحابة ميتة بل كما جوزة فارغة تتدحرجُ في فضاءٍ فاحم. يجب أن تحزنَ على هذا الآن يجب أن تشعرَ بالأسى الآن على العالم الذي أحببتَهُ بهذا القدر كي تقول “لقد عِشْت حياتي”…
* مؤلف “جمهورية الخوف” و”القسوة والصمت” ورواية “الفتنة”. يصدر له قريباً كتاب “في القسوة”.