د. نادية هناوي
إذا كان الشخص نفسه هو خير من يكتب سيرة حياته كما يقول دكتور جونسون؛ فإن المرأة هي الأقدر على ذلك، لا بسبب ما في حياتها من غنى وامتلاء؛ بل لأن مخبوءاتها ومدخرات مكنوناتها تظل طي الكتمان أكثر من الرجل كما أن المفاجآت أو المصادفات التي هي لب الكتابة السيرية عادة ما تعترض مسار المرأة بشكل أكبر والسبب تبعيتها للنظام الذكوري التي تجعلها منخرطة في الحياة ككيان ثانوي لا أكثر.
ولو عدنا إلى جذور نشوء فن الكتابة السيرـ ذاتية لوجدناه نسوياً بامتياز، فيه اتخذت المرأة الكتابة وسيلة بها تعبر عن تجاربها وذكرياتها في وقت لم يكن فيه مباحا للنساء المتعلمات التصريح عن تجاربهن بالكلام علانية في ظل واقع رجولي ينبغي التواؤم معه والقبول بوصايته.
والكتابة السيرية فن أدبي ذو مسارين، الأول ذاتي وفيه يكتب الشخص قصة حياته بنفسه لتندرج أما كسيرة ذاتية رجولية إذا كان الشخص رجلا أو سيرة ذاتية نسوية إذا كان الشخص امرأة. والمسار الآخر غيري، وفيه يترجم الشخص قصة حياة شخص آخر رجلا كان أو امرأة، وتكون الترجمة موصوفة بحسب هوية الشخص المترجم عنه، كأن تكون سيرة سياسية أو سيرة اجتماعية أو سيرة شعبية أو سيرة دينية أو سيرة أدبية أو سيرة علمية أو سيرة رياضية أو فنية .. الخ.
نقائص كتابة السيرة
والجامع بين هذه السير أنها إبداعية تمزج التسجيل التاريخي بالتعبير النفسي وفيها تتعالق الذكريات بالسرد وتتوشح الوقائع بالتخييل. والبغية تقديم حياة حقيقية في شكل مدونة نصية يعتبر بها القراء ويتعظون من دروسها وتجاربها .
وصحيح أنّ لكتابة السيرة الذاتية نقائص منها أن كاتبها قد ينسى وقد يخاتله العقل فيكون رقيبا عليه وقد يتحكم الشعور في انثيال ذكرياته، وقد تسرح المخيلة بذاكرته فتختلق ما هو غير حادث في استرجاعاته للماضي مما يجعل نسبة الصدق في ما يعتزم الكاتب بلوغه أقل مما هو مفترض ومطلوب، بيد أن هذه الكتابة تظل حاضرة منذ نشأتها في مطلع القرن التاسع عشر وإلى اليوم كنوع أدبي وليس جنسا؛ والسبب عدم رسوخ قالبها الفني الذي يجعلها قابلة للاندماج والذوبان في جنس أرسخ منها وعابر عليها هو الرواية.
وانطلاقا من مفهوم الذات المطلقة الديكارتية صار من دلائل عدم رسوخها هو نرجسيتها أولا وثانيا هيمنة الرجال على كتابتها لتكون شكلا من أشكال التعبير الذكوري تباهيا بالبطولات والأعمال العظيمة لتبقى السيرة الذاتية النسوية متراجعة إنتاجيا أمام السيرة الذاتية الرجولية. وأول سيرة ذاتية نسوية كانت بعنوان ( مارجري كيمب) وكتبت بالانجليزية وأول دراسة رسمت مسار السيرة الذاتية النسوية كانت لشاري بينستوك عام 1988 ودراسة لي جيلمور بعنوان ( خصائص السيرة الذاتية: نظرية نسوية للتعبير عن الذات) عام 1994 .
حضور السيرة الذاتية النسوية
وعربيا؛ لا نجد لكتابة السيرة الذاتية النسوية حضورا إلا اللمم، إذ لا يتجاوز عدد كتبها أصابع اليد بسبب القيود التي تعانيها المرأة عندنا بدءا بالمجتمع ومرورا باللغة وانتهاء بالثقافة والتاريخ. وقد تناول الناقد حاتم الصكر في كتابه( أقنعة السيرة) تلك السير على قلتها. ونضيف إليها سيرة ذاتية نسوية كتبت عن وعي بالذات وكفاح في التضاد مع التيار وتميزا في الإبداع الإنساني والإنتاج المعرفي، وهي سيرة الدكتورة ابتسام الصفار ( لو كان في العمر بقية) الصادرة عن دار الذاكرة ببغداد 2020 وقد كتبتها وهي تناهز الثمانين عاما واضعة في سيرتها عصارة ذكرياتها وحصيلة خبراتها وفحوى مشاهداتها، متضمنة على كثير من مواضعات الكتابة النسوية.
ومن مواضعات عد هذه السيرة الذاتية نسوية ما جاء في المستهل من توكيد واعٍ لمركزية الذات الأنثوية المتسيدة بقوة والحاضرة بثقة( كنت قد بدأت بكتابة السيرة قبل عشر سنوات حين كنت أستاذة في جامعة جدارا وأسميتها( لو كان في العمر بقية) واحتج كل من سمع بالعنوان وتشاءم منه وقد اقترح أحد الأخوة عدة أسماء منها حديث النفس، مرآة النفس، مع الأيام، وغيرها. وقد راجعت نفسي واستشرتها فوجدتها ميالة إلى العنوان الأول؛ فالأعمار بيد الله لا يقدمها اسم كتاب ولا يؤخرها..)
ومن المواضعات أن د. ابتسام الصفار هي المؤلفة وهي الساردة والبطلة وهو ما يجعل سيرتها مندرجة في خانة الأدب الشخصي المنطوي على توكيد البعد الجندري، فالرجل وإنْ كان قادراً على أن يكتب سيرة ذاتية نسوية سارداً الأحداث بلسان المؤنث؛ بيد أنّه لن يبلغ ما ستبلغه المرأة الكاتبة من ناحية تشفير معطيات الفكر كتاريخ فيه تتوكد قيمة الذات المؤنثة واضحة وايجابية, والمعطيات ظاهرة ومركزة بعلنية لا تحتاج من القراء فكا للشفرات وتأويلا للمغيبات.
الكتابة السيرية بوصفها…
ومن المواضعات أيضا أنّ الكاتبة ترى العالم لا من خلال عينيها فقط؛ وإنما من خلال عيني كل شخصية محيطة بها، ممارسة دور المؤرخة، مهتمة بالتفاصيل والخصوصيات الداخلية. وقد اتخذت من بعض فقرات مقدمة كتاب( حياتي) لأحمد أمين فاتحة لسيرتها، وفيها أكدت حقيقة تهيبها من الكتابة السيرية بوصفها هي الواصفة والموصوفة، واجدة في تساؤل أمين ( فيم انشر ؟ ) وإجابته ( أؤرخ حياتي لعلها تصور جانبا من جوانب جيلنا .. ولعلها تفيد اليوم قارئا وتعين غدا مؤرخا) تبريرا به ترد على( من لم يستسغ كتابتي .. بقولهم إنني لست وزيرة ولا رئيسة حزب ولا مفكرة.. فما جدوى كتابتي؟) قائلة: ( إن لم تكن هناك جدوى إلا عرض بعض مسيرتي في الحياة بكوني امرأة حاولت أن تشق طريقها وحياتها العلمية وتغلبت على كل وعثاء التقييد والتعثر التي توضع أمام الإنسان امرأة أو رجلا في مجتمعنا).
وهي إذ لم تكن معنية بالعموميات فلإنها كانت منشغلة بتوكيد القيمة الأدبية، جاعلة من الكتابة أداة بها تقدم مادة وثائقية، مطلقة العنان لذاكرتها، معترفة بالمغامرات والمخاطرات وكاشفة عن المغالبات والحظوظ والخيبات، مدينة للقارئ بالحقيقة والجمال.
ولا شك في أن كاتب السيرة مهما كان مبتغيا الحقيقة؛ فلن يكون كائنا محايدا بصورة كاملة كما يرى اندريه موروا في كتابه( أوجه السيرة، ص22) ومع ذلك تحرت د. ابتسام الصفار في سيرتها الذاتية الحقيقة الجمالية فكانت مأخوذة بفكرة الخير والنبل والاستقامة والعفاف والصرامة، مرتفعة عن السلبيات ومدارية على بعض التفاصيل محكومة بالإحساس الفني والاعتدال الواعي والذوق الرفيع.
فلا يصادف قارئ ( لو كان في العمر بقية) مثلا ما يثلب سمعة أحد أو يشوه صورة إنسان أو يفضح أمرا أو يعرض شيئا مؤلما؛ بل الغالب على الحوادث التي تسردها الكاتبة أنها تقدم صورة الحياة والطبيعة بشكل عام متحرية الصدق متعالية على بعض الأمور الشخصية في خضم اهتمامها بالتفاصيل الدقيقة المتعلقة بالعادات اليومية والمراسم الفلكلورية والطقوس الدينية والتقاليد الاجتماعية واللهجات والأمثال الشعبية التي عرفتها الحياة البغدادية، وقد رسمتها في شكل بانوراما صورية تبدأ من اربعينيات القرن العشرين وتقف عند العقدين الأوليين من القرن الحادي والعشرين، وفيها سرد قصصي ينطوي على كثير من اللياقة الأدبية وتتخلله الأبيات الشعرية والمقاطع الحكائية والنوادر الفكاهية فصيحة وشعبية، فضلا عما اشتملت عليه السيرة من صور فوتوغرافية ورسائل شخصية ومذكرات لا تخلو من أسرار وشهادات ووثائق لها صلة بالمشهد الأكاديمي الجامعي في العراق وبعض البلدان العربية التي عملت الدكتورة الصفار في جامعاتها، مع بعض المشاهدات والأخبار التي تكشف عن جوانب مهمة لوقائع مرت بها الحياة السياسية في العراق.
النظر بلا قناع
ولعل الذي يجعل سيرة د. ابتسام زاخرة بالأحداث بنوعيها الرئيسة والجانبية أنها تنظر للحياة والعصر بلا قناع معتمدة على ذاكرتها في استقصاء غير المرئي من الحقيقة وإظهار ما أندرس منها بإرادة وحرية تتسمان بالتعددية في الكتابة الإبداعية، تارة في صيغة الكتابة السردية وتارة ثانية في صيغة الكتابة الوصفية وتارة ثالثة في الكتابة الاستقرائية، جامعة التحليل النقدي بالأدب القصصي ومرتكنة إلى البحث الاجتماعي جنبا إلى جنب الانطباعات الشعورية.
وقد تبدو إحدى هذه الصيغ الكتابية هي الغالبة على الصيغ الأخرى؛ وهو ما لا ضير فيه ما دام المترتب على الكتابة السيرية هو التأثير في القراء كأهم وظيفة وأبلغ معطى ينبغي أن يراعيا في السيرة، وعن ذلك يقول موروا :” يتعين على كاتب السيرة شأنه شأن رسام البورتريت ورسام المناظر الطبيعية أن ينتقي الخصائص الأساسية في كامل الموضوع الذي يتأمله؛ فإن استطاع أن ينجز عملية الاختيار هذه دون إضعاف الكل، أدى وظيفة الفنان بدقة.” (أوجه السيرة، ص47)
وإذا كان كتاب ( لو كان في العمر بقية) بكل ما فيه من هذه الأبعاد الأدبية والسمات الجمالية قد وسم في الغلاف الأمامي بأنه سيرة ذاتية؛ فإنه يظل في حدود التوصيف النقدي الذي لا يؤهل السيرة الذاتية النسوية إلا أن تتمظهر إبداعياً في الرواية بوصف الأخيرة هي الجنس القادر على احتواء السير كمذكرات أو اعترافات أو يوميات أو خواطر أو تراجم أو تسجيلات والعبور من ثم عليها.