القسم الثاني
آية ياسر*
وتعود أحداث الرواية في فصلها الأخير إلى الزمن الحاضر حيث الأب الذي يعيش منعزلاً في الطابق العلوي من بيته بالجزيرة، وهو يعاني من الاكتئاب والنسيان الانتقائي وهواجسه وكوابيسه التي لم تبرحه قط، فيظن أن زوجته المتوفاة تعاني مخاضاً وأنه ينتظر وصول مولودته «رفيف.»
وبعودة البطلة إلى الجزيرة برفقة «قيس» الذي أعلن لها عن حبه، وصارحته هي الأخرى بحبها فيما بعد، وبلقائها براهب الدير الذي توجت إليه أمها فيما مضى لتشكو إليه هواجس وشكوك زوجها، تنكشف أمامها كثير من الحقائق حتى تصل إلى سلام نفسي، وتختار الكاتبة لروايتها نهاية مفتوحة تخيم عليها أجواء حالمة.
الرواية والعمق الفلسفي
وتتسم الرواية بالعمق الفلسفي، حيث تطرح قضايا فلسفية مثل: معان الشك والخوف والإيمان، التي تصبح مثل: أفكار جينية تتوارثها الأجيال، وتنهار بسببها الحيوات وتنطلق منها قصص النجاح؛ حيث تقول الكاتبة على لسان الراوي: «كل شيء يحدث لسبب، أو ربما نحن البشر نحتاج إلى وجود أسباب تدفعنا لقبول أحداث ليس بوسعنا فهم حدوثها، في فترة من الحياة لا نجد ما يدعو للبحث عن تلك الأسباب، فنتعلق بالسبب الظاهري الأول الذي نجده صالحًا لتفسير حدوث أمر ما، وشيئًا فشيئًا، نجعل من هذا السبب أمرًا منطقيًا ومقنعًا، إلا أننا ومع المواجهة الحقيقية الأولى وبعد مرور الكثير من الوقت، نكتشف أن هذا السبب ليس إلا فكرة في الرأس وما نحن إلا عبيد لهذه الفكرة.»
وتلجأ الساردة إلى التحليل النفسي لشخوص أبطالها في كثير من المواضع، لافتة إلى خطورة الظلم ربما يتحول إلى إحساس مزمن كفيل بتدمير حياة صاحبه ومن حوله، لكنه أحياناً يصبح دافعاً للنجاح؛ ففي مقطع من روايتها تقول الكاتبة على لسان بطلتها: «لا أعرف أي ضوء كنت أتبع، لكنني أكيدة من أن الرغبة الجامحة في داخلي للضوء، هي من كانت تقود خطواتي، كنت أغمض عينيّ في نهاية العرض وأبدأ متتبعة لحدسي والضوء في داخلي، في الدقائق القليلة التي كنت أتمم فيها نهاية العرض، أصحو على التصفيق الحاد للحضور، بعد مروري مع كل خطوة على الممشى في شريط الذاكرة، نظرات أبي الشاردة، حنانه المكتوم، هروبه الدائم من التوسل في نظراتي والاستجابة في عواطفه، أبي الشارد في سره الدفين والحزين الذي لا يعرف الضوء. كأنني نائمة أظلل عينيّ بوشاح الذاكرة، وأسير، أعرف أنني سأستيقظ في اللحظة الصحيحة تماما ولم أخطئ في ذلك يوما، أخرج من العتمة إلى الضوء، مثل فعل رديء يشتم رائحته ويهرب منها، ما الذي جنيته يا أبي؟
الصداقة والحب العذري
يقترب مني دون أن يراه أحد، يعانقني فتنفجر القاعة بالتصفيق.»
وتقدم الكاتبة نمطين من العلاقات العاطفية لبطلتها «رفيف»، الأولى: عبارة عن زيجة فاشلة تشبه الصفقة، وتخلو من المشاعر والأحاسيس، يعاملها خلالها الزوج بجفاف وازدراء يذكرها بمعاملة أبيها «كريم» لها طيلة حياتها.
بينما الثانية علاقة الصداقة التي تحولت إلى حب عذري شابها الحذر، جمعت بينها وبين الإعلامي «قيس»، والتي تصفها البطلة وصفاً بليغاً في تلك الفقرة من الرواية.
«هل تقوى على منحي كل ما لم تمنحني إياه الحياة يا قيس؟ هل تأخذني إلى طفولة أخرى، أكون فيها الهدية التي يتم انتظارها طويلاً، تحملني بين ذراعيك وتبتهج لابتسامة بلهاء على وجهي هل تجرني في عربة ذات عجلات كبيرة على الرصيف المحاذي للبحر وتتباهى بالزغب الذي يعلو رأسي ثابتاً لا تحركه النسمات، هل تهدهدني لأنام وتتركني بين ذراعيك حتى الصباح؟
هل تقوى على الدفاع عني من حقد أقراني فيما بعد وأنا أحظى بتقدير آنسة الرسم واللغة العربية، هل تحتوي خوفي من الرعد وتدسني تحت لحافك في ليالي الشتاء الباردة وتهدئ من روعي لعدم فهمي لأسرار الطبيعة، وهل ستدمع عيناك وأنت تصفق لي مع كل عرض مسرحي وكل شهادة أحصل عليها وتقف بين المنتظرين لتضمني إلى صدرك وتفاجئني بحفل صغير يشبه أعياد الميلاد التي تحتفل فيها العائلات التي يملأها الحب.
لا أعرف حقاً ما الذي أريده منك، الا أنني أتمنى لو أتأبط ذراعك ونمشي معاً على السجادة الحمراء على وقع موسيقى الزفاف ، مزهوة بك والدمع يتناوب على عينينا معاً، أراك بقرب خطواتي وأمامها منتظراً لي، تقدمني عروساً منك إلي».
أزمة الرواية
وتدور رواية «كلب الحراسة الحزين» في ثلاثة أزمنة متتالية، ويتراجع المكان كعنصر مؤثر في السرد لصالح عنصر الزمان الذي يتجلى بشكل مؤثر على سير أحداث الرواية، ويتجلى ذلك في عدد من مواضعها، وخاصة شائعات نهاية العالم التي تزامنت مع نهاية العقد الأخير من القرن العشرين، عن طريق مشهدية دقيقة لازمت السرد.
كما تتجلى ملامح نهايات الألفية الثانية وبداية القرن الحادي والعشرين في الرواية عبر ثورة الاتصالات والشبكة العنكبوتية والبريد الإلكتروني ومحركات البحث عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
لقد اعتمدت الكاتبة في صياغة روايتها الجديدة على السرد البسيط الخالي من التعقيدات اللغوية، دون أن يخل ذلك بالتحليل العميق لشخصيات الرواية، معلنة عن أصواتهم الداخلية عبر سلسلة من الحوارات التفكيكية.
كما اختارت الكاتبة عدة مقولات وأبيات شعرية لتكون على رأس كل فصل من فصول روايتها، مثل: الشاعرة الأمريكية «سيلفيا بلاث» والشاعر اليوناني «قسطنتين كفافيس»، الشّاعر الأوكراني الفرنسيّ «ألان بوسكيه»، الشّاعر البرتغالي «فرناندو بسوا».. وغيرهم ، لتصير بمثابة إضاءات على السرد، لكنها بدأت الفصل الثّاني بقصيدة شعريّة من إبداعها على عكس معظم الفصول، إلى أن وصلت إلى الفصل الأخير دون أن تختار استشهادًا ليشكل عتبة لفصل الختام.
واستعانت الكاتبة بتقنيّة تغيير الخطّ لتعيين لحظات التّقاطع والتّمازج في موضعين من الرواية، ألهما: عند الحديث بشكل تقريريّ عن الكاهن «صهيب» والصوت القويّ الذي خرج من أعماق المحيط الهادي عام 1997.
والثاني عندما وصفت مشهد خيانة زوج «رفيف» لها؛ حيث خاطبت «صونيا خضر» القارئ، قائلة: «لن أعتمد وصف الشِكل الّذي كانت عليه غرفة النّوم بعد فتحها للباب، كثير من الرّواة فعلوا ذلك من قبل.»
ويمكننا الجزم بأن «صونيا خضر» تعمدت ألا تجعل الراوي واحداً من أبطال روايتها، بل اختارت كراوية، أن تقوم بدور الشاهد والمحقق وربما القاضي معاً؛ حيث سردت الأحداث كما هي عارضة إياها من عدة زوايا وبحياد دون أن يشوبها انحياز أحد الأبطال فتختلط بمشاعره وقناعاته، موضحة الوجوه العديدة للبطل الواحد، ومحاولة ابحث في دوافعه وأسبابه التي قادته لأن يكون ظالماً ومظلوماً في آن واحد.
رواية الأسباب والنتيجة الواحدة
وبشكل عام فإن «كلب الحراسة الحزين» هي رواية الأسباب والنتيجة الواحدة، التي تنطوي على الشك والحزن، والظلم والألم، وتنحاز للنساء الوحيدات الحزينات المترعات بالشجن، ترافق بطلة الرواية في رحلتها الطويلة الأليمة وتدفعها الكاتبة بقوة من العتمة نحو الضوء في آخر النفق الذي يحمل آمالاً مزهرة لبطلتها، وكأنها تريد أن تقول أن لكل ليل آخر وأن الحزن لا يدوم.
يشار إلى أن «صونيا خضر» هي أديبة فلسطينية، تترواح إبداعاتها بين الرواية والشعر، سبق أن صدرت لها أعمال: «»باب الأبد» رواية، كما أصدرت من قبل ثلاث مجموعات شعرية هي: «لشموس خبأتها» عن دار فضاءات في الأردن 2009، و «لا تحب القهوة إذا» عن بيت الشعر الفلسطيني 2012، و»معطرة أمضي إليه» وهي مجموعة بالعربية والفرنسية عن دار لزهاري لبتر في الجزائر، و رواية «كلب الحراسة الحزين»، الصادرة عن دار الفارابي للنشر.
- روائية وقاصة مصرية