د. نادية هناوي
تعاملت النظرية الأدبية عبر تاريخها الحديث والمعاصر مع قضية الأجناس تعاملا متغايرا انطلقت فيه أولا من التحييد النوعي الأرسطي للأجناس الكبرى الملحمي/ الغنائي/ الدرامي، لتنتقل بعدها ثانيا إلى التنويع الاجناسي للتحييد الأرسطي في أجناس صغرى كثيرة، واصلة ثالثا إلى الانفتاح الذي ما عادت فيه فكرة حدية الجنس الأدبي مقبولة في حدود دوغمائية ومسافات بينية، مؤشر إليها بمواضعات خاصة ومقولب بناؤها في تحديدات صارمة.
ولا خلاف في أن هذه الرحلة التي قطعتها النظرية الأدبية في معالجة التجنيس الادبي ليست بالمشوار الهين بسبب ما رافق كل شوط من أشواط الرحلة من معطيات فكرية وتاريخية لم يكن أمر تجاوزها باليسير ولا التعدي عليها مخالفة ومغايرة بالبسيط؛ ومع ذلك فإن التغيير حصل بسبب ما اتسمت به النظرية الأدبية من مرونة فكرية سمحت لها بأن تتبلور تبلورات غير متحرزة ولا منغلقة، تضاهي ما يطرأ على الأدب من تغييرات بنائية، مماشية التنوع في الإبداع، متحفزة للتطورات في الفكر الانساني ومواكبة التبدلات في حمولاته الفلسفية والتاريخية. وما هذه المراحل الثلاث التي قطعتها النظرية الادبية سوى دليل على أن لا قوانين تحكم الأدب ولا دساتير تموضع توجهاته إنما هي نظرية فيها تنطوي نظريات وبهذه الروح انتعشت النظرية الأدبية فاعلة ومتجددة.
ولكي نفهم سر الفاعلية التي تنطوي عليها النظرية الأدبية في تجددها واستمرارها، فإن علينا الوقوف عند الادب نفسه بوصفه المادة المدروسة التي تشكل مضمار الاشتغال الابستمولوجي للنظرية الأدبية، واقفين عند قضية من قضايا هذه النظرية وهي قضية الأجناس، متسائلين عن السبب الذي يجعل الأديب يدمج جنسا بجنس؟ وأي الاعتبارات يضعها في باله وهو يجمع بين جنسين ؟ وما غايات هذا الجمع وما دلالاته؟ أهو قصور الجنس الواحد عن استيعاب ما يراد التعبير عنه وتمثيله أم هو مجرد تزيين شكلي يراد به المغالبة والمفاخرة حسب؟ وأي الاجناس تكون المراهنة على دمجها بأخرى هي الأكثر نفعا ضمن تراتبية النوع الأعلى والأدنى او الاجناس الكبرى والصغرى؟ وإذا عددنا الدراما هي الأعلى في الترتيب والانفع في تحقيق المراد؛ فماذا عن الغنائية أليست هي الأخرى قابلة للتموضع وتحقيق النفع؟
هذه الاسئلة وغيرها تبين الحاجة إلى فهم مرونة النظرية الادبية التي تجعلها دائمة التبدل في التعامل مع الاجناس الارسطية الثلاثة الكبرى وهي( الغنائي /الملحمي/ الدرامي).
ولنؤطر تلك المرونة بمفهوم السيولة الذي طرحه زيجمونت باومان، وفيه لا تعود للعالم ثوابت يعترف بها ولا استقرار يمكن الوثوق به حيث العقلية لا تتخندق في سجون ومعتقلات، ولا المنطقية تستكين في مَضافات. وهذا ما يجعل أي نظرية ناقضة للثبات وداحضة للتمركز، خذ مثلا ما طرحته تفكيكية دريدا عن اللوغوس وبول دي مان وطروحاته حول العمى والبصيرة، وجوليا كرستيفا وما نظرت له من امتصاص النصوص وتحويلها، وكرستوفر نوريس عن الهشاشة والاختزال وما انطوت عليه طروحات ميشيل فوكو من انقلابية تثويرية ..وغير ذلك كثير.
ومن هذا الفهم انتفت عن النظرية الأدبية بنيوية التموضع وشكلية التجانس، وصارت تتعامل مع الأجناس بمائعية النسقية المفتوحة وبمعايير صريحة وضمنية في فهم الأدبية، وهو ما كان قد أثاره رومان ياكبسون في سؤاله الاثيري: في أي شيء تنحصر أدبية الأدب؟ !
وهذه السيولة هي التي تجعل أي جنس من الأجناس خارج مواضعات الفهم التقعيدي لكلمة (الكبرى) بكل ما تتضمنه من دلالات الصلادة والتماسك والنقاء والثبات والقطع والحدية. وإذا كانت النظرية الأدبية تجد في مفهوم الجنس حقلا شديد التناظر مع مفهوم النص من ناحية الانفتاح وسيولة النظام البنائي سطوحا وطبقات، فإنها أيضا مقتنعة أن مفهوم الجنس أوسع من أن يحيط بتشعبه وتوالده بناء أو منظور، خلافا لما اعتادت عليه النظرية الأرسطية في توزيع الاجناس الثلاثة الكبرى( الملحمي/ الغنائي / الدرامي) إلى طبقات تحتية تتوزع فيها الأصناف الاجناسية الصغرى.
وليس هذا التبدل في النظرية الأدبية ـ التي توصف بأنها ما بعد أرسطية ـ بالأمر الطارئ أو غير المنطقي، فالتفكير في تهشيم فكرة الأجناس بدأ منذ المرحلة الرومانطيقية، ليتجلى واضحا في مرحلة ما بعد الحداثية. وهذا ما يجعل استقراءنا للا نهائية الأجناس الأدبية أمرًا واقعًا وطبيعيًا وهذا ما كان جيرار جينيت قد أكده وهو يرى الاجناس قابلة للإضافة التقيميية، كأن تلحق القصيدة النقدية بالملهاة ومن ثم تلحق القصيدة الدرامية، قاطعا بذلك الشك في إمكانية ربط الأجناس بعضها ببعض، مخالفًا نظام نورثروب فراي في تقسيم الأنواع الأدبية الى خانات متنافسة وغير منسجمة.
واقترح للتدليل على مضمونية فكرة الانفتاح والسيولة في التعامل مع قضية الأجناس مصطلح (جوامع الاجناس) مشترطا «في كل جنس أن يشرف بطريقة تراتبية على عدد من الاجناس التجريبية وأن يحتويها. ومهما كانت مقدرة الاجناس على الاستيعاب وعلى الاستمرار في الحياة والتكرار أكيدة؛ فإنها دون شك نتاج الثقافة والتاريخ. وهذا ما يمكنها من التداخل، متنبئًا أن ستوجد أنواع أخرى في المستقبل لا نتصورها نحن اليوم على الاطلاق والسبب أن الانواع والاجناس الصغرى والاجناس الكبرى لا تعدو أن تكون عبارة عن طبقات تجريبية، وُضعت بناء على معاينة المعطى التاريخي.
والمهم في ما طرحه جينيت حول جوامع الاجناس هو تفريقه الاصطلاحي بين( الصيغة) التي هي ليست تصنيفا في خانات نظرا لما تتسم به من الوضوح والانتظام اي التناظر، و(الجنس) الذي هو تصنيف في خانات؛ فالسرد مثلا صيغة، بينما الرواية جنس وليست سردا. وعلاقة الجنس بالصيغة علاقة معقدة؛ فالاجناس قد تخترق الصيغة، لكن لا يوجد صنف واحد للصيغة. وهذا هو الذي دفع جيرار جينيت إلى إلغاء مسألة نقاء النوع مؤكدا تداخله، ولعل سائلًا يسأل ما الأدلة التي استند اليها جينيت وهو يتوجه هذه الوجهة المخالفة للنظرية الأرسطية؟ وما مبرراته؟
لعل في مقدمة مبررات هذا التوجه تفريق جينيت ما بين السرد بوصفه صيغة والدراما بوصفها نمطا والرواية والقصة القصيرة والملحمة بوصفها أجناسا. أما الاجناس الصغرى أو التحتية مثل رواية المغامرة؛ فإنها لا تعدو أن تكون سوى تخصيصات محصورة داخل الأجناس لها قابلية الاستيعاب، هذا فضلا عن النظر الانفتاحي إلى النص بوصفه بناءً متعاليًا، وعن ذلك يقول جيرار جينيت( لا يهمني النص حاليًا إلا من حيث تعاليه النصي أي أن أعرف كل ما يجعله في علاقة خفية ام جلية مع غيره من النصوص.. واضمنه التداخل النصي)، واجتراحه للتداخل النصي او التعالي النصي هو توكيد لإيمانه بالتواجد اللغوي لأي نص في نص آخر.
وهو ما كانت جوليا كرستيفا قد نظَّرت له وهي تنفي براءة النص ونقاوته، واجدة أي نص هو نتاج نصوص سابقة، وفي هذا الإطار اقترح جينيت مصطلحات( النظير النصي وجامع النص والجامع النصي وجامع النسج) للتعبير عن التعالي النصي، وما فيه من أنواع العلاقات كعلاقة المحاكاة الساخرة التي هي عبارة عن فكرتين متداخلتين، مفضِّلا النظير النصي مصطلحا، على التعالي النصي.
ولا يخفى ما ينطوي عليه مصطلح النظير النصي من مفاهيم التداخل والتعالي والتعالق التي فيها تتهشم فكرة النوع التي نادى بها النقاد الأرسطيون، وفي مقدمتهم نورثروب فراي الذي تحدث عن نظريات( الأنماط والرموز والأساطير والأنواع الأدبية).
وما يهمنا هنا النظرية الأخيرة، التي فيها يؤمن فراي بأن كل نوع من الانواع الادبية في سلسلة الانماط التاريخية يرتفع بدوره ليصل الى درجة من درجات الهيمنة، وعنده القصة fiction نوع أدبي يعتمد الكلمة المكتوبة، والسيرة الذاتية ليست قصة، والرواية شكل من أشكال القصة وكذلك الحكاية، والخطاب هو قلب الأدب الذي تحده الدراما والقصيدة الغنائية. والدراما تتصل اتصالا حميمًا بالشعائر بينما تتصل القصيدة الغنائية بالحلم أو الرؤيا بالفرد وهو يناجي نفسه، مفترضا أن المؤرخ الأدبي الذي يطابق بين القصة والرواية يصاب بالحرج عندما يفكر بكل ذلك الوقت الذي تمكن العالم فيه من العيش بدون روايات، مستدركا أن أشكال القصص النثرية أشكال مختلطة اختلاط الاجناس البشرية، ولا يمكن فصلها بحسب الذكورة والأنوثة.
وعودًا الى جيرار جينيت؛ فإن توجهه النظري المستبدل لفكرة النوع الادبي بفكرة التداخل لاقت قبولا عند نقاد كثيرين، نذكر منهم بيير شارتييه الذي شبَّه الرواية بالمجتمع. ووصف الرواية بأنها جنس غير قابل للتحديد أو هي نوع فوق الأنواع لا تعرف قواعد ثابتة وقاطعة، وأصولها غائمة ومثار جدل، وموضوعها قد تطور مع الزمن، وأن هذا ليس هو منظور الناقد حسب؛ بل منظور الروائي ايضا الذي يمارس التنظير في كتابتها مواجها ضغوطا وكوابح، والسبب أنَّ الرواية منفتحة على جميع الممكنات وفي حالة توسع متواصل كأنها تشبه المجتمع الحديث. وهي تنحو اليوم نحو التماهي بأكثر من الأدب ذاته، ومثلما عد جينيت السرد صيغة، فإن شارتييه عد التراجيديا والكوميديا والملحمة صيغا، مضيفا إليها الصيغة الرابعة وهي الباروديا او المحاكاة الساخرة.