شكر حاجم الصالحي
بعد اصداره خمسة دواوين شعرية هي: ذاكرة الماء، مرفأ الهذيان، قبلة على جبين خوذة، عندما يهرب النهر من ضفافه، و…. أليس غريباً أن نكون كلنا أنبياء؟، يتحفنا محمد الخالدي بديوانه السادس (رحيل) الذي ضم بين دفتي غلافيه ثمانية وعشرين نصاً تنوعت مضامينها وتعددت طرائق خطاباتها، لكنها جميعاً أشرت مهارة منجزها وتمكنه من أدواته وثراء لغتها، وهو بذلك يرسخ تجربته وبجوهر متبنياتها، وقبل أن أمضي مع بعض نصوص (رحيل) لابد من الاشارة الى ان محمد الخالدي أدرك حقيقة فهمه لأهمية العنونة، اذ غادر في المجموعة العنوانات الطويلة واكتفى بمفردة واحدة «رحيل» مما يشير الى ضرورة الإيجاز والتوصيف الدقيق لما ينتجه بعد ثلاثة عقود من التجربة والمران والممارسة والنضوج وهذا مما يحسب له، وسنكتشف تلك النتائج من خلال نصوصه المشار إليها …، اذ ان اغلب عنوانات النصوص إكتفت بايجازها مثل: كيف، لماذا، صورة، فوانيس، دخول، دراجتي، خراب، خوف، أوهام، تحشيش، البصرة، أصدقاء، إغتيال، هذيان، مسح، رسام، شجرة، جلجامش، وقوف، الجسر، رحيل… وهو بهذا يؤكد زعمنا بوعيه لأهمية العنونة ودلالتها وقدرتها التوصيلية، فليس الاستفاضة في بناء العنونة وامتدادها ما يسعف على ايصال مبتغاه، ومن هنا نجح محمد الخالدي في مغادرة أجواء مسمياته الشائعة (المترهلة) وجاءنا بعناوين مختصرة ودالة… ومعكم سنقرأ (صورة) ص ٢١ التي اضاءت تفاصيل ما أشرنا اليه اذ يقول: كلما مررت / في الشارع المؤدي الى مدرسته / لمحت صورته / معلقة على احد أعمدة الكهرباء / الشهيد / تستوقفني ملامحه / تتوهج في ذاكرتي / يحدثني / عن طفولته / عن مدرسته / عن مراهقته / عن حبيبته / يسرد لي وقائع المعركة التي استشهد فيها / وكيف تسللت شظية الموت الى قلبه / وكيف خانته قدماه / ايقع مضرجاً بكبريائه / كأنه العراق / كان يحدثني بتساؤلات كثيرة / وتكاد تمزق قلبي / ودعته على عجالة / وفي جفني دمعة حرى … / في هذا النص الفجائعي يستحضر الشاعر تفاصيل أيامه الغابرة مستذكراً رفيق طفولته وصباه، وكيف اصبح مجرد ذكرى (صورة) على عمود الكهرباء، وما اكثر الصور والاعمدة في هذا الزمن العاهر. ان محمد الخالدي بنصه (صورة) يبجل التضحية ويفتخر بالمضحين الذين ذادوا عن الحياض وقدموا ارواحهم الطاهرة البريئة قرابين لكي يظل العراق واقفاً بكبرياء رغم عصفة الشر الداعشية، الشهيد في (صورة) هو انا وانت، فكلنا فداء للوطن اذا ما داهمتها نيوب الافاعي وسم العقارب، الخالدي يحاور رفيق طفولته، وينصت لإجاباته بخشوع، فالشهيد يسرد لصاحبه وقائع المعركة التي تسللت شظاياها الى قلبه العاشق النابض بحب العراق والحبيبة ولكن الخالدي لم يتحمل المشهد الدامي فغادر صورة صاحبه الشاخصة على العمود بـ (دمعة حرى) وهذا هو قدر العراقيين وحجم الوفاء الذي يسري في الدماء والضمائر، وفي (هذيان) ص٥٩ يسرد لنا الشاعر بسريالية فاجعة مآل الحال وما جرى للأهل والعيال في زمن الجحود والعقوق واشباه الرجال: سأهذي بكل ما ملكت يميني وسأركب حمار السلطان بالمقلوب وسأشد سرجه على ظهري و…. لن ابالي ان وقع الحمار عليّ ام وقعت عليه فأنا والحمار سيان في الحمل والركوب.. انه هذيان واقعي بإمتياز يحدث مثله في ايامنا البائسة التي نعيش ضراوتها واختلال موازينها وصعود الطفيلين الى ما لا يتوقعون والضحية في كل الحالات المواطن الذي وضع على ظهره سراج الحمار الذي صار واياه في مزية فريدة لا ينافسه على امجادها احد من المكاريد في هذا الوطن الذي احرقته اصابع العابرين والماكثين واحالته الى خراب وظلام ومكائد… (فأنا والحمار سيان في الحمل والركوب) تلك هي الخلاصة الظالمة… وفي (رحيل) ص٧٢، يوغل محمد الخالدي في رثاء النفس الصديقة التي اعتاد ملاقاتها والمكوث الى جانبها في لياليه العاطرة: كان / يأتي مع صديقه الكوفي كاظم / يجلسان في مقهى قرب مسجد الحمراء / يتبادلان / شرب الانخاب / وحين يتمم الكوفي / تنفرج اسارير المقهى / بالأمس / رأيته / رأيت قصائده تشيعه حافية وحاسرة الرأس …/ انه مشهد واقعي أجاد في انشائه وجدان الخالدي وصدق مشاعره وفيض وفائه لمن أحبه وأختار عشرته وهذا هو جوهر العراقي وطبعه المتميز. وأخيراً ، أقول: إن (رحيل) محمد الخالدي إضافة نوعية لمنجزنا الشعري أتمنى مخلصاً ان يلتفت له من يقرأ بوعي نقدي نافع ففي ذلك كشف عن منجزاته وجواهره الكثيرة والثمينة.