لن نجافي الموضوعية والانصاف عندما نعد حال واحوال ما يطلق عليه بالسلطة الرابعة (الاعلام)، أكثر بؤساً مما انحدر اليه المجتمع (افراداً وجماعات) بعد اربعة عقود مريرة مع ما يعرف بـ “جمهورية الخوف”؛ والسبب يعود لما يمتلكه من وظيفة ودور في تشكيل مصائر الشعوب والامم، وهذا ما تدركه جيداً القوى المتنفذة داخل العراق وخارجه، لذلك وضعته على رأس أولوياتها واهتماماتها. هذه القسمة العاثرة لم تتزحزح بعد “التغيير” وحسب بل أصبحت أشد واقسى، لاسباب وظروف تطرقنا اليها مراراً وتكراراً. لذلك تعجز اليوم أفضل واقوى الميكرسكوبات الالكترونية من العثور على اعلاميين بالمعنى الذي وجدت من اجله مهنة المتاعب؛ أي يكرس كل حياته ومواهبه من اجل ايجاد المعلومة الصحيحة وايصالها للمتلقي، وسط كل هذا الحطام من “دمى الاعلام”. خطورة هذا النوع من المخلوقات انها تتقمص دورها بشكل لا يمكن ان يثير الشكوك حولها، فهي محاطة بهالة من الادعاءات والعناوين والبطولات الزائفة، ومدججة بالديباجات والوسائل والادوات المخصصة لهذه المهنة، وغالباً ما تطرح نفسها بوصفها ممثلة لأجمل وأروع ما سطرته مسيرة المجتمعات البشرية من قيم وافكار وخطابات.
سدنة مثل هذه الحقول والمخضرمين في بورصة “الياخذ امي ايصير عمي” يجيدون التعامل مع هذا القطاع الواسع (دمى الاعلام) وبنحو خاص مع خصائصهم النفسية المثقلة بانواع من العقد يعجز عالمنا الراحل علي الوردي بجلال قدره عن فك طلاسمها. يمكن للمتابع الجاد لا العابر التعرف على الادوار التي لعبوها في تاريخنا الحديث، فعبرها تتم أخطر العمليات الممنهجة لخلط الاوراق وزيادة عتمة المحطات الملتبسة من حياة العراقيين. وما المواقف المخزية للكثير من المنتسبين لذلك الحطام زمن المخلوق الذي انتشل مذعورا من جحره الأخير، والادوار التي لعبوها في التزلف والخنوع والتبجيل لذلك المسخ، من دون ان يضطر اي منهم لتقديم لا ذرة من اعتذار عن كل تلك المحطات المشينة في سيرته الذاتية وحسب، بل شرعت لهم مناخات ما بعد “التغيير” الملتبسة وحاجة طبقة اللصوص والمشعوذين لخدماتهم، كل الابواب لضخ سمومهم بكل حماسة وثقة. وللتاكد أكثر من مثل هذه المعطيات المريرة، يمكن اخذ عينة عشوائية لا من تاريخنا القديم المثقلة سردياته بالاكاذيب، بل مما كتب ودون عن تاريخنا الحديث، لنتعرف على حجم الظلم والحيف الذي لم يكتفي باسدال الستار عن كل ماهو مشرق وجميل من صفحات سطرها خيرة ابناء هذا الوطن المنكوب وحسب، بل تم تسخير كل ما لدى مرتزقة القلم من مواهب وترسانة عريقة في التضليل لتزييف وتشويه ذلك الارث اليتيم.
عندما نتفق على وجود مثل هذه الحقائق المؤلمة، وهذا الاختلال الفاضح في التوازن لصالح قوى الردة والديماغوجية والارتزاق؛ كيف يكون بمقدورنا ترقب قدوم تحولات نوعية تنتشلنا مما انحدرنا اليه برفقة هذا الجيش الهائل من المخلوقات التي فرطت بآدميتها بابشع الأشكال. عبر عمليات واسعة ومعقدة من التخادم بين حطام الاعلام هذا والطبقة السياسية الحاكمة من شتى الكانتونات والمكونات، نجدهم حتى هذه اللحظة مواظبون على تمرير كم هائل من الانتهاكات والجرائم في الميدان الاشد فتكاً في حياة المجتمعات والمدن (الاعلام) حيث يقترف غير القليل منهم أبشع الجرائم في حقل هو الأنبل فيما عرفته سلالات بني آدم من مهن، وهو واثق ومطمئن ان ذلك لن يعرضه لاي مسائلة أو عقاب، كونه في بلاد أدمنت على شرعة “القاء القبض على الضحية واطلاق سراح الجاني”…
جمال جصاني