الصباح الجديد ـ وكالات:
لم يمنح انهيار المعسكر الاشتراكي، ثم الاتحاد السوفيتي عام 1991، تحت وطأة المشكلات الداخلية، الثقة في استثنائية الطريق السليم الذي يسلكه الغرب فحسب، وإنما منحه أيضا ثقة في أن تلك التغييرات كانت نهائية.
وقد عبّر عن تلك المشاعر بدقة فرانسيس فوكويما في نظريته “نهاية التاريخ” ،لقد انتصر الغرب للأبد، ولم يبق للمنتصر سوى إعادة ترتيب الأوراق وفقا لأجندته، والاستمتاع بالهدوء والازدهار لألف عام قادمة.
لكن نهاية التاريخ لم تحدث، بل أصبح من الواضح تماما الآن أنها لم تنجح على الإطلاق. فالنموذج الليبرالي الغربي لم يفقد جاذبيته للآخرين فحسب، وإنما لم يعد يضمن بقائه. وها هي قيادة العالم تنتقل من الحضارة الأوروبية إلى آسيا، وهي عملية مؤلمة ومدمرة لأبعد الحدود للعالم أجمع. فالغرب لا يستطيع التصالح مع فقدان وضعه، في الوقت الذي فقد فيه القدرة على منع ذلك، لنشهد نتيجة لذلك حرب استنزاف تحمل صبغة الحروب التجارية حتى الآن، لكن من الممكن جدا أن تتحول مع الوقت إلى حروب ساخنة.
إن الحديث عن جميع جوانب أزمة الغرب هو حديث طويل يمكن أن يستغرق صفحات كثيرة، لكنني سوف أتوقف عند الجوانب الأكثر وضوحا.
على الرغم من الإحصائيات الرسمية التي تشير إلى انخفاض معدل البطالة لمستويات قياسية واستمرار النمو الاقتصادي الأمريكي، يتزايد إدمان المخدرات في الولايات المتحدة الأمريكية، وينخفض متوسط العمر المتوقع للأميركيين، وهما مؤشران يعكسان الأزمة المتنامية في اقتصاد البلاد أفضل من كثير من الإحصائيات.
كذلك تتغير خريطة التكوين الإثني والعرقي للولايات المتحدة الأمريكية بوتائر متسارعة، وترتفع نسبة كبار السن في المجتمع الأمريكي، بما يحمله ذلك من تداعيات اقتصادية، ولن تصبح الأغلبية البيضاء أغلبية خلال العقدين القادمين، في الوقت الذي لا تتمتع فيه الأقليات بتمثيل سياسي كاف في السلطة، ما يهدد البلاد بحروب أهلية وعرقية يليه تفكك وانهيار.
ليست الأمور أفضل كثيرا في أوروبا. فقد تأسس نموذج الاتحاد الأوروبي على سوق كبيرة ومفتوحة لألمانيا وعدد من دول أوروبا الشمالية القوية اقتصاديا، ممن هيمنوا على الأسواق، وقمعوا الانتاج في أوروبا الجنوبية والشرقية. في الوقت نفسه تم شراء ولاء سكان جنوب وشرق أوروبا على حساب القروض الضخمة من البنوك الألمانية والدول القوية اقتصاديا إلى أعضاء الاتحاد الأوروبي من الدول الفقيرة، وهو ما أعطى انطباعا لسكان تلك الدول، في السنوات العشر الأولى، بالازدهار بسبب الالتحاق بالاتحاد الأوروبي. لكن القروض، مع الوقت، استهلكت، وهبط مستوى المعيشة، وأطل شبح أزمة القروض اليونانية، الذي هدد بانتشار العدوى لدول جنوب أوروبا – البرتغال وإسبانيا وإيطاليا. وأصبح الاتحاد الأوروبي على حافة الانهيار.
لكن اليونان حصلت على قروض أكثر، وبدأ الاتحاد الأوروبي في ضخ أموال غير مغطاة، حفّزت الاقتصاد اليوناني مؤقتا، وأجّلت الأزمة إلى حين. لكننا نرى الآن كيف يزحف الكساد الاقتصادي ببطء نحو أوروبا، بينما بدأت البنوك المركزية الأوروبية مجددا في ضخ أموال غير مغطاة، وهو ما يهدد بكارثة اقتصادية وتضخم مفرط.
من جانب آخر، لن يكون البريكست المؤلم للغاية، المحطم لآمال أوروبا الموحدة، درسا للبريطانيين، ولن يوقف محاولات خروج أعضاء آخرين من الاتحاد. أعتقد أن المؤسسة البريطانية الحاكمة لن تلفت لإرادة الشعب، وبإمكانها إلغاء المحاولة الأولى للبريكست. بل ومن الممكن أن يتم ذلك عبر استفتاء ثان، سيصوّت فيه الإنجليز، على الأغلب، ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي، على خلفية إقناع الصحافة للمواطنين بأن الصعوبات المتزايدة، إنما تعود للبريكست، وليس للتراجع البطيء للغرب والعولمة. لكن القصة لن تنتهي هنا، بل إن الوضع الاقتصادي، بعد إلغاء البريكست، سوف يستمر في التدهور، وحينها سوف يبدأ البريطانيون في إلقاء اللوم على إلغاء البريكست في كل مشكلاتهم. وهو ما سوف يضمن تفاقم الأزمة في بريطانيا نفسها، وخروجها، لو بعد حين وبتداعيات أكبر، من الاتحاد الأوروبي.