كما هي دائماً العبر والدروس والمعطيات الفعلية في هذا الوطن المستباح، ستلتحق الدفعة الجديدة منها والتي افرزتها الاحتجاجات الاخيرة الى مستقر لها في متاهات ذاكرتنا المثقوبة. حيث سيتم طمر كل هذا الضخ الاسطوري من خطابات وحماسة وعنفوان اعلامي وتجييشي وتعبوي، لم يعرفه لا تاريخ العراق وحسب بل المنطقة برمتها، في مقابر النسيان الفردي والجمعي، ليبقى المتلقي لمثل تلك الفضلات السامة بلا حول ولا قوة. لا يحتاج المتابع المنصف الى ذكاء خارق كي يكتشف القدرة الواسعة لسلاح الاعلام بمختلف انواعه التقليدية منها والحديثة، لا في التأثير على المتلقي وحسب، بل في قدرته على التلاعب به بشكل غير مسبوق، عبر عمل ممنهج لتزويده بكم هائل من اشباه ودغل المعلومات والمعارف المعطوبة. اعلام يضع اجندة تمويله فوق كل اعتبار ويسحق كل المعايير ومدونات الشرف والقيم التي يجترها في كل مناسبة، حيث تعرفنا على وسائل اعلام كانت الى زمن قريب تبدو رصينة ومهنية في تعاطيها مع عراق ما بعد “التغيير” تتحول الى منصة ومنبر لفلول النظام المباد والمتجحفلين معهم بسيرة وقيم وممارسات؛ ينفثون فيها سمومهم واحقادهم وما تختزنه عقولهم وضمائرهم الملوثة من نوايا وثارات، حاولوا عبثاً تغليفها بالديباجات التي لم يطيقوها في يوم من الايام، كالحقوق والحريات وكرامة الانسان.
في الجانب الآخر تحول الاعلام الرسمي الى مركز استقطاب للكثير من اشباه الاعلاميين المسكونين بهم الحصول على الوظيفة والتمسك بها وبامتيازاتها في كل زمان ومكان، وقد اسست الكتل والجماعات المتنفذة لمثل هذه الاورام “الاعلامية” عبر تطويب جميع المفاصل الحيوية لهذه المؤسسة الاكثر نفوذا وفتكاً، لصالح عناصر واتباع، كل مواهبهم تنحصر في تقديم فروض الطاعة وفنون التزلف، لذلك فقد هذا الاعلام مصداقيته وقدرته على ممارسة دوره الوطني والدستوري، وهذا ما شاهدناه بوضوح في جميع المنعطفات التي مرت بها هذه التجربة الديمقراطية اليتيمة ولم يختلف الامر مع الاحتجاجات الاخيرة. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان ما يجري في المجال الحيوي (الاعلام) لا ينفصل عما يحدث في الميادين الاخرى، ولا يمكن لعاقل ان يتوقع تحولات جدية أو اصلاح فعلي فيه، مع وجود برلمان (اعلى سلطة تشريعية ورقابية في البلد) بهذا المستوى من ضيق الافق وفقر الامكانات النظرية والعملية، لذلك ستبقى التجربة الديمقراطية يتيمة ومغضوب عليها وسط محيط ضاج بالاحزاب والكيانات المثقلة بكل الهموم والتوجهات الا الديمقراطية والوطنية والحضارية.
لقد كشفت الاحداث الاخيرة عن الكثير من الثغرات والعيوب البنيوية، يمكن رصدها في الكثير من الشعارات والهتافات والمطالب والخطابات والحلول التي لا تمت لامكاناتنا الفعلية بصلة، وعند اقتفاء علل الكثير منها، نجدها تكمن في عدم وجود قوى وتوجهات جادة لايصال المعلومة لمجتمع حرم منها لزمن طويل. لقد تحول هامش الحريات الذي اتاحته ما يعرف بحقبة “الفوضى الخلاقة” الى ولادة كم هائل من وسائل ومنابر الاعلام السمعبصرية ومواقع التواصل الاجتماعي، التي تهتم بكل شيء الا قضايا الحرية والتعددية والحداثة وحقوق الانسان. لا يمكن تخيل وجود وسيلة اعلامية واحدة بمقدورها شق عصا الطاعة لاربابها ومصادر تمويلها، لذلك أصبح حال المعلومة ومعرفة حقائق ما يجري وماجرى؛ كغربة ذلك الشاعر الذي قال: “اني لافتح عيني حين افتحها/ على كثير ولكن لا أرى احدا”…
جمال جصاني