طارق الجبر
في قصيدةٍ حالِمةٍ للشاعر الأميركيّ والت ويتمان، الأكثر تأثيراً في القرن التاسع عشر، نقرأ انفتاحاً شِعريّاً على عوالمٍ بعيدة بلُغةٍ أشبه بأن تكونَ توصيفاً كلاميّاً لرؤى ذلك الشاب الصغير الذي ترك تعليمه بعُمرٍ مُبكّر ليعملَ صبيّاً في مطبعة، حيثُ كان يقرأ كلّ ما تصل إليه يداه، من الإنجيل إلى شِكسبير وهوميروس ودانتي حتّى شُعراء ألمانيا والهند القُدماء.
في ديوانه «أوراق العُشب» الذي شكّل أحد العلامات الفارِقة في الأدب الأميركيّ، والذي صدرَ أثناء عملهِ في المكتب الهنديّ بوزارة الداخليّة الأميركيّة حيث قام الوزير بطردهِ على أساس أنّه عملٌ غير أخلاقيّ، نجدُ أنّ النفحات الإنسانيّة التي تعصِفُ بقصائدِ «الشيخ الصالح»، كما وَصَفهُ الكاتب ويليم أوكونور، خيرُ دليلٍ على وساعةِ روحِ هذا الشاعر الإنسان الذي طالما هامَ على خارطةِ الأدبِ العالميّ من بلادهِ وإلى أقاصي آسيا الشرقيّة مُنذ كان صبيّاً.
(إلى غريب)
أيّهذا اللا غريب اللا قريب
ما عرفتُكَ، وانتظرتُك.
كمْ كنتُ أبحثُ عنكَ في الدنيا طويلاً…
والحُلمُ يأتيني جميلاً:
عِشنا سويّاً – دونَ عِلمٍ – في مكان.
زُرنا الزمانَ وحيثُ ينسابُ الزمان
نهراً شريداً ليس يعبأ بالمكان.
سِرنا سويّاً، كُنتَ شابّاً أو فتاة.
كمْ أكلنا وارتوينا صُحبةً،
ثمَّ صِرتَ نقاءَ عيني
واحتميتُ بنورِك.
أعطيتَني نورَ الحياة: وجهاً وطين
حينَ التقينا، أخذتَ منّي
كلَّ شيءٍ زادَ عنّي
باليقين.
أنا لا أكلّمُ غيرَ روحِكَ في مَنامي
وحين أصحو، لا أراك.
أنا في انتظاركَ
لا أخافُ لقاءَ غيرِكَ
أيّهذا اللا غريب…
بيننا شيءٌ هناك.
والجديرُ بالذكرِ – هنا – أنّ كُلّاً من أمين الريحاني وجبران خليل جبران اللذين تزعّما حركةَ تجديدِ الأدبِ العربيّ في المهجر، قد اطّلعا على أعمالِ ويتمان بحُكمِ وجودِهما في أميركا وإجادتِهما للغةِ الإنكليزيّة، ممّا فتحَ المجالَ أمامَ الريحاني ومِن بعدهِ جبران لابتكارِ نمطٍ شعريٍّ جديد، أسماهُ الريحاني «الشعر الحرّ»، وأطلقَ عليهِ النقّاد لاحِقاً اسمَ «قصيدة النثر».
وأمّا عن ترجمةِ هذه القصيدة بشكلٍ أقرب لشِعر التفعيلة مِنه للنثر، فهو اجتهادٌ شخصيّ ومُحاولةٌ لقراءةِ القصيدة عربيّاً بالطريقة التي كان يُمكن لها أن تكتب، لو لم تكن موجودةً بلغةٍ أُخرى مِن قبل، فهي أشبه بمُحاكاةٍ خجولة لِمُحاولة الطبيب والشاعر نقولا فيّاض ترجمةِ – أو إعادةِ خلق – قصيدة «البُحيرة» للفرنسيّ الفونس لامارتين، والتي نظَمَها على البحر البسيط كمُعارضةٍ لنونيّة ابن زيدون (أضحى التنائي بديلاً مِن تدانينا)، ومَطلعُها: (أهكذا أبداً تمضي أمانينا!).
وفي هذه الترجمة شبه الغنائيّة للقصيدة، هنالكَ نوعٌ مِن المُقاربة لِنَفْس والت ويتمان الشِعريّة، فهو الذي قال: أنا أحتفي بنفسي، فأُغنّيها.