كه يلان مُحمَد
قراءة المشهد الثقافي دون التوقف عند الأسماء النسائية النابغة تظلُ مبتورةً وغير مُكتملة ولا يصحُ النظر إلى دور المرأة الفاعلة في الوسط الأدبي بوصفها مُلهمةَ الرجال فحسب صحيح أنَّ كثير من الأعمال الإبداعية المتميزة مسكونة بروح المرأة وطيفها حاضرُ في النصوص المسبوكة بحرارة الوجد لكن الصورة لا تنهي عند هذا الحد بل كان تأثير المرأةِ محورياً في حياة كثير من الفلاسفة والأدباء كيف يمكن فهم حياة نيتشة على المستوى الفكري وإدراك رؤيته للأنثى إذا تجاهلتَ سالومي؟ هل يمكن الفصل بين ما كتبه الفريد دي موسيه من قصائد ناضحة بالحب وما عزفه فريديك شوبان من ألحان خالدة عن تجربتهما العاطفية مع الأديبة الشهيرة جورج صاند؟ الا تستحيلُ متابعة حياة الرسام المكسيكي الشهير ديغيو ريفيرا بمعزل عن الفنانة المثيرة للجدل فريدا كاهلو التي فأصبحت حتى بعد رحيلها أيقونة للفن؟ وكانت رواية (صباح الخير أيها الحزن) لفرانسواز ساغان إرهاصاً بمرحلة جديدة بعد إنقشاع غبار الحرب وطالما يكون الحديثُ عن دور المرأة المُفكرة أو المبدعة لا يجوزُ القفز على الفيلسوفة الفرنسية سيمون ديبوفوار التي شكلت مع رفيقها جان بول سارتر ثنائية نادرة للصداقة الفكرية المشبوبة بالعاطفة، وعلى المستوى العربي يبرزُ اسمُ الأديبة اللبنانية مي زيادة باعتبارها رمزاً ثقافياً وصاحبة أشهر صالون أدبي. إلى جانب ما تمت الإشارة إليه أعلاه ثمةَ نماذج نسائية يمضي كثير من الوقت قبل اكتشاف فرادتها وتركيبتها الشخصية نتيجة التعتيم وعدم الاهتمام بتجاربها الحياتية.
ثمن الحرية
قد يكون التاريخ غير مُنصفٍ في تدوين سيرة النساء اللائي أضفن إلى الحياة الفكرية والأدبية بالإبداع والاجتهاد الجريء، واختزل دورهنَّ في العلاقة العاطفية مع المشاهير مثلما حصل ذلك مع الكاتبة والصحافية التشيكية ميلينا يسنسكا فكانت معرفتنا بالأخيرة رهنَ الرسائل التي تلقتها من كافكا إذ طبعت لأول مرة في عام 1952 بينما حياة المرأة التي وصفها صاحبُ (القلعة) بنار حية أبعد ما تكون من التنميط نظراً لشخصيتها الخارقة وذكائها الحاد وعاطفتها الفائرة والكتاب الصادر حديثاً عن ميلينا بترجمته العربية من دار الرافدين بعنوان (نارُحية) ألفه الكاتب الألماني ألويس برينتس وهو متخصص في فن السيرة يضعك بوجه شخصية عاشت حياةً صاخبة وكانت مغرمةً بالمُخاطرة والتضحية وحلقت خارج الحدود المرسومة ضاربة بالمواضعات الاجتماعية عرض الحائط رفضت ميلينا إملاءات الوصي لذا فمن الطبيعي نبذها من المجتمع التقليدي وكان ذلك ثمناً لخياراتها الحرة ورغبتها في مُعايشة تجارب متنوعة، فهي وحيدة والدها بعد موت أخيها يان، وأرادَ يان يسنسكي الدفع بابنته لاقتفاء أثره وتدرسُ الطب غير أنَّ ميلينا اختارت مصيراً آخر عندما كانت طالبةً في ثانوية «منيرفا» بدأتْ باقتناء روايات دوستويفسكي وأسكار وايلد، وكنوت هامسون إضافة إلى كتب فلسفية على رغم شغفها بالتمردِ ومُخالفة التقاليد الاجتماعية المُتحفظة آنذاك في ملبسها وعلاقاتها العاطفية أيضاً فإنَّ الشعور بالحزن كان مُتغلغلاً في طبيعة ميلينا إذ أكدت بأنَّ كل شاب يحملُ في داخله حزنا مُفرطا وربما هذا الطبع يفسرُ تفكيرها في الانتحار باعتباره مهرباً مخفياً. قُدرَ لميلينا مسؤولية رعاية والدتها وكانت تصاحبها إلى المُستشفى قبل أن يُقعدها المرضُ وتصبح مشلولة تماما وما زادَ من حدة الاكتئاب هو سوء العلاقة القائمة بين الطبيب وزوجته ومن المواقف التي مرت على ميلينا رؤية والدتها بين أحضان رجل غريب لكن كتمت السرَ ولم تتحدث عن هذا الموضوع أبداً ومنذ ذاك الوقت كرهت شجرة القلب النازف لأنها كانت عنصراً من المشهد إذاً فإنَّ تنشئة ميلينا في هذه الأجواء الأُسرية المُفتقدة إلى الدفء بفعل انصراف الوالد إلى اهتماماتها المهنية وقسوته في التعاملِ كانت عاملاً وراء ثورة الابنة على إكراهات الواقع والمُجتمع وهذا كلفها أثماناً باهظة من مُقاطعة الوالد إلى إقامة في المصحة النفسية والتغرب فضلاً عن ذلك فإنَّ زيجاتها الثلاث لم تتوجْ بالنجاح، كما ذاقت في يفاعتها مرارة الإجهاض القسري وحبها الفاشل مع المغني هيبرت فافرا وكل هذا الصخبُ العاصف في حياة ميلينا لا يعادلهُ سوى ما مرَّ به العالمُ من مرحلة مَفصلية في تلك الحقبة إذ لم تكن براغ محصنةً من شظايا الحرب العالمية الأولى والصراعات القومية والأثنية.
قوة الإرادة
عاشت ميلينا في سلسلة من الأزمات القاسية وما زادها ذلك إلا اقتناعا بقدرها ولم تكنْ شخصيةً هشةً تهربُ من عواقب قرارها حين تنتقلُ مع زوجها إرنست بولاك إلى فيينا كانت فتاةً صغيرة ولم تتقن الألمانية ولم يكن لديها قطعة نقود والأصعب من ذلك أن بولاك تركها في المدينة الغربية ذاهباً إلى حيث توجد صديقته، لم تستسغ ميلينا مناخ مقاهي فيينا ورأت بأن تهاوي إلى هذا المكان العفن يحولُ دون الصعود نحو القمة.
ارتادت إلى تلك المقاهي شخصياتُ غريبة منها الدكتور أوتوجروس الذي وصف بنبي اللذة وأعلن بأن الجنس والمخدرات هما الدواء الناجع للقيود والالتزامات الخارجية والداخلية .باختصار فإنَّ حياة المقاهي غلبت عليها الإباحية والمجون في فيينا، فيما كان بولاك غارقاً في ملذاته فإنَّ ميلينا أبت الاعتماد على معونة الوالد إذ شرعت بالعمل في محطات القطار وتحملُ حقيبة المُسافرين مقابل إكرامية زهيدة ومن ثمَّ أعطت الدروس الخصوصية لرجال الأعمال الذين كانت لديهم مصالح تجارية وفرض واقع انفصال تشيكوسلوفاكيا من مملكة هابسبورغ تعلم اللغة الجديدة وكان هيرمان بروخ من بين هؤلاء الذين درسوا التشيكية لم يكتفِ بولاك بإهمال ميلينا والانشغال بنقاشات المقاهي بل حولَّ بيته إلى منصة للمُناقشات وإيواء بعض عشيقاته بالمقابل التصقت ميلينا بالمجتمع أكثر راقبت حياة البسطاءِ وتعاطفت مع المنكوبين وتأكدت بأنَّ هناك أشخاصاً لا تضرهم الحياةُ والغريب هو ما أقدمت عليه ميلينا من السرقة بعدما يئست من استعادة بولاك وعندما سُئلت لماذا سرقت المال واشترت به الملابس قالت «لأنني كنتُ أمر بأزمة جنسية»
لغز كافكا
الغرابة ليست سمةً لروايات فرانتس كافكا بل حياته تبدوُ أكثر غموضاً من نصوصه الأدبية كان مُنكفئاً على ذاته مشغولاً بوسواسه وهواجسه فسخ مشروع زواجه مرتين مع كل من فليس باور وبيولي فوريتسك كان يعيشُ حياة المُتنسكين لايربطهُ بواقعه سوى عمله اليومي بخلاف بولاك الذي أصبح نجماً لحلقات أدبية، لكنَّ معرفة مؤلف (المُحاكمة) بميلينا تُعتبرُ منعطفاً في حياته العاطفية وبدأتَّ العلاقة بين الإثنين حين قررت ميلينا ترجمة أعمال كافكا إلى التشيكية إذ لفتت انتباهها قصة الوقاد وبادرت بمراسلة كافكا بشأن مشروعها وما كان من رد الأخير إلا أن جاء ودياً ويسألها عن صحتها ناصحاً إياها برحلة الاستجمام بعيدا عن فيينا يُذكر أن المُشتركَ بين كافكا وميلينا هو صراع كلاهما مع الأب أزيد من ذلك تطلع الاثنان لحياة مُستقلة ومغادرة براغ حققت ميلينا ما كانت تصبو إليه فيما فشل كافكا وبعدما يجمعُ بينهما لقاءُ في غابة فيينا توصل كافكا إلى قناعة بأنه أصبح لميلينا وميلينا له وعلى أثر ذلك ينهي علاقته بخطيبته، ودارت الرسائل بين فيينا وبراغ وأدركت ميلينا مبكراً بأنَّ عليها أن تلعب دور المنقذة لكافكا ولم تكن مستعدة القيام بهذه المهمة خصوصاً بعد تبصرها لما يعيشهُ كافكا من الخوف والقلق بشأن الحياة وهذا لم يمنعها من زيارته في البيت على رغم عدم ترحيب أهله بالمرأة التي ذاع صيتها في براغ بوصفها مستهترةً بعد انفصالها من بولاك عاشت ميلينا تجربة جديدة مع كونت شافجوتش ومن ثم ارتبطت بالمهندس اليساري كريتسار يارومر وفي هذا السياق لا يجوزُ التغافل عن النزعة الإنسانية لدي ميلينا فهي ساعدت أصدقاءها للخروج من براغ عندما تحولت المدينة إلى ثكنة نازية خلال الحرب العالمية الثانية كما أن تفوق في مجال العمل الصحافي جانب آخر من شخصية ميلينا وانتهت حياتها داخل أكبر معسكر اعتقال للنازيين «رافنسبروك» وهي بلغت من العمر ثماني وأربعين سنة وكان معيار ميلينا لجمال المرأة هو الثقافة واعتقدت بأن من تمتلك شخصية مُثقفة تكون سيدة جميلة. أحبت ميلينا الحياة بكل مظاهرها وصورها بتناقضاتها الصارخة وتقلباتها المضنية.