عبد علي حسن
الجزء الاول
منذ ظهور رواية (وافرلي) للروائي الاسكتلندي والتر سكوت عام 1814–.التي عدت كأول رواية تاريخية، ولحد الآن، وهذا النوع الروائي يشهد جدالا واسعا وإثارة للعديد من الإشكاليات، لعل في مقدمتها جهوزية المادة الروائية، الا ان هذا النوع قد شهد أيضا تحولات جذرية تجاوزت رواية النشأة الاولى التي تسمى احيانا بالرواية التاريخية التقليدية التي تفترق عن الرواية التي تأثرت وتمكنت من الاستفادة من التطورات الحاصلة في فن الرواية حتى تلك التي جاءت بها الرواية الفرنسية الجديدة، ويقينا فإن استمرار هذا النوع الروائي واستجابته للمتغير الاجتماعي والفني منذ مطلع القرن التاسع عشر.
يؤكد فاعليته وأهميته البالغة من بين الأنواع الروائية التي تبدت في اقبال الروائيين في العالم على الكتابة به من منطلق ضرورة نقد التأريخ ومسائلته وفق رؤى جديدة على المستوى المعرفي والجمالي، سيما ما يتعلق بالحوادث التاريخية المفصلية في حياة الشعوب الماضية وتأويلها مجددا وبما يضمن استمرار المخيال الجمعي والشخصي في رفد الهوية الجمعية بوجهات نظر جديدة لذلك المخيال الراكز في الذاكرة والمكون للذاكرة المعاصرة، وإزاء ذلك فإن التعريف الذي وضعه لوكاتش في كتابه القيم (الرواية التاريخية) لايزال يحتفظ بقوة إثرائه للعديد من التعريفات التي شهدتها الرواية التاريخية لاحقا -وهي كثيرة- تبعا للتطور الحاصل في البنية الاجتماعية والروائية على مدى العقود الطويلة المنصرمة، فيعرفها لوكاتش بأنها (رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تأريخهم السابق للذات….ص89 ) ويتبدى تأكيد التعريف على اسبقية تلك الحوادث للذات المعاصرة على صعيدين، الأول هو استقرار الحوادث وانغلاقها على بنية زمكانية راكزة من الممكن قراءتها مجددا ونقدها ومسائلتها لإثارة الحاضر، والثاني هو اعتماد الأخبار التاريخية المتعلقة بتلك الأحداث، على اعتبار ان الذات المستحضرة لتلك الوقائع لم تكن شاهدة او حاضرة عند وقوعها، لذا فإن قراءة تلك الوقائع ستتم عبر تأويل المصادر التاريخية الموثقة للوقائع والأحداث الموضوعية / الحقيقية بحسب رؤية تلك المصادر التي تحتمل الصدق والكذب والتحريف والمبالغة، لذا فنحن ازاء تأريخين، التأريخ الموضوعي والأخبار التاريخية، وعبر فعالية التأويل فإننا سنشهد في الرواية التاريخية تأويلا للأخبار التاريخية المتعلقة بالتأريخ الموضوعي، وبين حرص الروائي على النأي بروايته عن الجانب التوثيقي ومهمته في كتابة رواية فنية تحوز على الفعل المعرفي والجمالي، تظهر الرواية التاريخية وهي تمارس لعبا حرا في استخدام ما تيسر من تقنيات روائية جديدة تضعها في قائمة الروايات المؤثرة على الصعيدين المعرفي والجمالي دون ان نستثني تلك الرواية ونبرأها من الانحياز الآيديولوجي ووجهة نظر الروائي، وقطعا فإن جهدا كهذا يتطلب مقدرة في اختيار الوقائع التي تشكل مفصلا مهما في حياة الشعوب ومن الأجزاء المكونة للمخيال الجمعي ، وكذلك تتطلب من الروائي معرفة بالجديد من تقنيات الرواية وتوفير امكانية تجاوزها، لأن الهدف اساسا هو تقديم رواية فنية وليس وثيقة تاريخية، وهذا ما سنتقصاه في رواية ( دمه) للروائي العراقي محمد الأحمد الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع / عمان 2018 ، فقد اعتمد الروائي احد عشر مرجعا لتكون اخبارا تاريخية حول واقعة ذبح (جعدة بن درهم) من قبل والي الكوفة (خالد القسري) وعده اضحية لعيد الاضحى المبارك لعام 119 هجرية، وغيرها من الوقائع المتصلة بحادثة الذبح أو بالعصر الذي حصلت فيه ،الا أن خبر هذه الواقعة التاريخية او ما اتصل بها كانت الإطار التاريخي الذي خلق فيه الروائي نصه المتخيل الذي تم سرده وفق تقنيات روائية حديثة، كخرق التتابع الكرونولوجي وإعطاء حرية اكثر للراوي كلي العلم (النحيف) شقيق جعدة في سرده المتخيل، ولعل خلو الرواية من الأسماء حتى للشخصيات المركزية كان لصالح الرواية في توجهها الحداثي ولتبيان اعتمادها تقنيات الرواية العالمية الجديدة التي لم تولي الشخصيات أهمية كما توليها للأحداث وخرق قواعد السرد فيها، لذا فقد ارادت الرواية أن تدخل العالم الروائي من اوسع ابوابه مقابل غلق منافذ الهدف التوثيقي الذي عادة ما يتكفل به الموثق التاريخي، الا ان الدوافع لكتابة هذه الرواية تبدى في اعتماد واقعة ذبح جعدة ذريعة لفضح ممارسات واحد من اعتى نظم الحكم الاسلامية وهو الحكم الأموي الذي اتبع ابشع الطرق والوسائل في تصفية خصومه منذ 41 هجرية، عبر حادثة امتلكت استقرارها كحقيقة تاريخية مجردة تم تثبيتها في الوثائق والمصادر التي اعتمدها النص الذي تجاوز هدف توثيقها الى ادماجها في بنية فنية وهي الرواية وبذلك فقد أخضعها الروائي الى تفسيره ووجهة نظره الخاصة، وهذا ما دأبت عليه الرواية التاريخية الجديدة التي تسعى الى تقديم عمل روائي قوامه الواقعة التاريخية ، فهي قد وظفت التأريخ وأخضعت الخطاب الروائي لسيطرتها فقدمته بطريقة جديدة تتناسب وطبيعة الخطاب الروائي، اذ ان الروائي يدرك تماما ان ما يقدمه انما هو رواية فنية حازت على مقومات الرواية الجديدة التي تسعى الى وضع المتلقي في جدال ومسائلة مع تأريخه بأسلوب فني وجمالي، فقد تمكن الروائي محمد الأحمد من تجاوز العديد من الصيغ التقليدية في الروي، منحازا الى تقنيات جديدة ومعاصرة ساعدت كثيرا في احاطة المتلقي بكل حيثيات الحدث التاريخي وتأويل ما يتصل به ، فضلا عن المتخيل السردي الذي كشف عن براعة اسلوبية في بناء الأحداث والشخصيات والأمكنة ، فقد كان الراوي كلي العلم شقيق (جعدة) من اختلاق الروائي الذي وجد في هذا الشقيق خير من يتولى سرد الأحداث الواقعة بين صلاة المغرب للتاسع من ذي الحجة 119 هجرية وصلاة الصبح لليوم العاشر الذي شهد تقديم خالد القسري رأس جعدة ضحية عيد الأضحى بأمر من الخليفة لأمر اعتقده ذنبا يضر بمصلحة المسلمين والدولة ، وقد تمكن النص من فضح محاكم التفتيش الأموية وطرق تعاملها مع الأفكار
والآراء الجديدة المجادلة والمأولة للنص المقدس، كما حدث لجعدة الذي انكر تكليم الله لموسى وخلته لإبراهيم الخليل مبالغة منه في توحيد الله ونفي الصفات البشرية عنه، وعلى الرغم من كل الجهود المبذولة من قبل المقربين للخليفة الاموي الأخير هشام بن عبدالملك للعفو عنه، الا ان تلك المحاولات قد باءت بالفشل ليقتل بتهمة الزندقة وتحريف كلام الله، وقد اختار القسري تلك القتلة الشنيعة لتكون انذارا جمعيا لكل من تسول له نفسه الاجتهاد والتصريح برأي مخالف لراي فقه السلطة/ الاموي، وهنا تتبدى محاولة الروائي لعصرنة الحدث/ الفكرة التي سيطرت على الموقف السلفي المتعصب في التعامل مع الآراء المختلفة، اذ شهد المجتمع العراقي بعد 2003 تضادا طائفيا شكل خلافا منهجيا لا يمكن حله الا بالسيف حسب وجهة نظر المنظمات الاسلامية المتطرفة التي كشفت عن نهجها ومواقفها هذه عند احتلالها للمدن العراقية في 2014، لذا فإن ما تدعو اليه هذه التنظيمات انما هو امتداد وتواصل مع تلك المواقف التي كرسها فقه الخلافة الأموية والعباسية والعثمانية في التعامل مع المختلف فكريا، والتي لا تخلو من جور وتكفير واضطهاد وقتل وتشريد وسجن وسواها من وسائل كبح جماح المختلف، وبذا فقد اتضحت رؤية ووجهة نظر النص الروائي في نقده للتعصب الفكري الذي يكرسه فقه السلطة ليدعم سلطانه، ونرى بأن الروائي قد مارس حرية في تأويله وتفسيره للنصوص والمرويات التاريخية التي تداولت حدث ذبح (جعدة) على اختلاف توجهاتها، ليصل الى نقده لظاهرة التعصب المعاصرة التي تمارسها التنظيمات السلفية.