في تسعينات القرن الماضي أطلقت المنظمات الدولية في الغرب حزمة قرارات لتكريس مفهوم التعددية الثقافية، وحقوق المجموعات الدينية والعرقية، ورفض التهميش والاستبعاد. وكان هناك تخوف مما يمكن أن تؤول إليه النزاعات الحاصلة في بعض البلدان، مثلما حدث في البلقان، بعد تفكك جمهورية يوغسلافيا السابقة.
بل إن بعض القوانين الصارمة التي شرعت في البلدان الأوربية منذ عقود طويلة، حورت في بعض الأحيان كي تتماشى مع الخصوصيات الثقافية لهذه المجموعات. وكان هناك تركيز على مسألة التكيف مع الاختلاف، إلى حد الاعتراف بمطالب بعض الأقليات في الحكم الذاتي!
كانت مثل هذه التشريعات مفيدة جداً في الغرب، إذ لم تترتب عليها تبعات كثيرة بالنسبة للسكان الأصليين، فماتزال الثقافة هناك قوية متماسكة إلى الدرجة التي تجعلها في مأمن من طغيان الثقافات الوافدة. بيد أن هناك اعتراضات في بعض الدول الغربية ومنها فرنسا بشأن هذا الموضوع. فقد كانت الأقليات من القوة بحيث زعزعت أمن تلك المجتمعات، وأغرقتها بالمشاكل. وبدت في كثير من الأحيان مخالفة لفكرة التنوير التي قامت على أساسها الأمم المتحدة، لصالح فكرة النسبية الثقافية. فوقفت هذه الدول ضد فكرة التعددية مستبدلة إياها بالمساواة. وألزمت الجميع بالانصياع لقوانينها دون تمييز.
ما يهمنا الآن هو حماية الثقافة العربية ومنع تدهورها على أيدي الأقليات، بسبب اعتماد هذا المبدأ، ورضوخ الأغلبية لما يملى عليها من «حقوق ثقافية» على حساب الثقافة الأم.
ولا بد أن الجميع يتذكر الضجة التي أثيرت حول إطلاق صفة العروبة على بلد مثل العراق في دستور عام 2005، والنقاش الطويل حول اختيار نشيد وطني جديد باللغة العربية فيه. مثل هذا الأمر لم يحدث سابقاً، ولم يجرؤ أحد على الخوض فيه من قبل. وكان مؤشراً على الخطر الذي يتهدد مستقبل الثقافة العربية في هذه البلاد. وقد لاحت بوادر تفكك مريب بعد سنوات قليلة، وبات من المحتمل أن يؤدي إلى انفصال مجموعات منه بذريعة حق تقرير المصير، أو حماية المكتسبات، التي وفرها مبدأ التعددية الآنف الذكر.
ليس ثمة حل في بلادنا نحن، والبلاد العربية الأخرى التي تعاني من ذات المشكلة مثل الشام وشمال أفريقيا إلا باعتماد فكرة المساواة الصارمة، التي تجعل العربية اللغة الأم التي لا تعلو عليها لغة، ولا تنافسها في التعليم والسياسة والعمل ثانية. ففي جميع الأحوال لا بد من لغة معيارية تكون أساساً للتعاملات اليومية في الداخل والخارج.
وبدون ذلك علينا أن نتوقع الكثير من المتاعب، التي لن تنتهي حتى تؤذن بتشرذم بلداننا، وتفسخها إلى كيانات هزيلة غير قابلة للبقاء في هذا العالم المترامي الأطراف. وهو أمر إذا ما حدث فسيكون أسوأ كارثة تحل بالعرب منذ قرون طويلة، وسيكون عليهم أن يواجهوا حينها مصيراً كالحاً لم يألفوا مثله في غابر الأيام.
محمد زكي ابراهيم