من فشل الى فشل آخر ومن خيبة الى خيبة أشد منها، تنتقل قاطرة هذه المضارب المسكونة بكل مقومات العجز والفساد والانحطاط، من دون ان تظهر عليها ادنى مؤشرات لتحول ما عن هذا النحس العضال، والذي لم يكف عن مرافقتها منذ أكثر من الف عام وعام. كل هذا البؤس ويصر سدنة هذه البلدان المنحوسة على أولوية الحفاظ على “ثوابت الامة” ومواجهة كل من تسول له نفسه بـ “البدع” والانحراف والمروق عنها، للتحول بعد سلسلة متواصلة من انظمة العبودية والقهر؛ الى أكبر وأكثر بيئة طاردة لأفضل ما تجود به تضاريسها من مواهب علمية وادارية وسياسية بين سلالات بني آدم في العصر الحديث. وفي العراق الذي يتصدر منذ عقود قائمة الدول الأكثر فشلا وفسادا في تقارير المنظمات الاممية المتخصصة، تحتضن المنافي وبلدان الشتات طوابير لا تنتهي من ضحايا تلك البيئة والشروط القاهرة والمتنافرة وابسط متطلبات العيش الحر والكريم. برغم ما مثلته لحظة زوال النظام المباد، من انعطافة حاسمة في تاريخنا الحديث، لا سيما في مجال الخلاص من مثل تلك البيئة والشروط والمناخات اللا انسانية التي عاشها العراقيون من شتى الرطانات والهلوسات والازياء، الا ان تطورات وتداعيات ما بعد “التغيير” حملت الينا هموماً وفزعات واهتمامات لم تقل فتكاً وهمجية عما عرفناه زمن ذلك المخلوق الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير.
يتوهم غير القليل من جهابذة حقبة الفتح الديمقراطي المبين، انهم وعبر ضخامة ملفات الفساد التي يدبجونها، سيتمكنون من ارعاب حيتان الاجرام والفساد والانتصار عليهم في نهاية المطاف. من دون أن يلتفتوا الى حقيقة انهم قد وجدوا في مواقعهم الرقابية والتنفيذية هذه، من خلال موافقة وتزكية المكاتب الاستشارية الخاصة بتلك الآفات المهيمنة على تفاصيل الحياة في تلك البيئة الراكدة. لا يحتاج الامر الى الكثير من الجهد والمعونات الخارجية، كي نكتشف هشاشة وبؤس مثل تلك الفزعات الفاشوشية، فمن خلال التعرف على نوع القيم والافكار المحركة للكتل المتنفذة في المشهد الراهن وما تمخضت عنه الدورة الانتخابية الاخيرة، نصل الى ما اشرنا اليه، فالضحالة الفكرية والاغتراب عن هموم وتحديات العصر هو ما يشتركون به جميعاً من دون استثناء. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان كل ذلك يستند الى اساس مكين من الضحالة والبؤس القيمي والوجداني والذي بسط هيمنته على قطاعات واسعة من المجتمع لاسباب تطرقنا اليها مرارا وتكرارا…
هناك الكثير من قصص النجاح والتفوق لقوافل العراقيين الذين أجبرتهم شروط الحياة في وطنهم الام، لتركه الى حيث دول اللجوء والمنافي، وما سيرة الراحلة الكبيرة زها حديد الا مثال بارز على ذلك من وسط عشرات الالوف من الملاكات العلمية والادارية، والتي لا أمل برجوعها الى وطن طوبت قدراته وثرواته وعقول شعوبه ومقاليد اموره الى ضدهم النوعي من حطام البشر واشباه المتعلمين من الذين ارتضوا لانفسهم أن يكونوا ذيولاً لقوارض المجتمعات والدول. اختم مقالي هذا بقصة روتها لنا شقيقة زوجتي في وطنها الجديد السويد؛ وهي عن طبيب عراقي يعمل يوم الثلاثاء فقط في احدى مستشفياتها، ذلك اليوم الذي تشهد فيه تلك المستشفى ازدحاماً لا مثيل له في باقي الايام، حيث يحرص المراجعون واغلبهم من سكان البلاد الاصليين على فرصة الكشف عليهم من قبل ذلك الطبيب العراقي المهاجر…
جمال جصاني