رومـا: مـوسى الخميـسي
تصادف هذه الايام الذكرى المئوية لاستيلاء الشاعر الفاشي المثير للجدل غابرييله دانونسيو (1863ــ 8193) على مدينة ” فيومو” الشمالية الصغيرة واعلانها جمهورية مستقلة. كان يوصف بالمغرور البغيض سرعان ما اكتسب شهرة أدبية، وأصبح بطلا قوميا، بعد رحلة دانونسيو الأيديولوجية التي بلغت ذروتها في فشل محاولته لإقامة مدينة فاضلة على أساس المثل الفاشية. ارتبط اسمه بالحياة السياسية في إيطاليا، لكنه اعتزل الحياة السياسية والعامة في أواخر أيامه.
دانّونسيو أحد أكبر شعراء وأدباء أوروبا في القرنين التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تغنى بالمجازر التي ارتكبتها إيطاليا في ليبيا، ووصف بأقذع الأوصاف كل من قاوم الاحتلال الايطالي لهذا البلد العربي. كان زير نساء، مشهوراً بالفجور والمجون في أدبه وحياته الشخصية، مفرط في انانيته الشهوانية، واستسلامه الكلي لاختبار الرخاء واللذة النهمة التي غرق فيها طيلة حياته بفضول متمادي لاترسمه حدود. وصفه العديد من المثقفين اليسارين ابان فترة الفاشية بانه قمعي ولا انساني. وكان أيضاً طياراً حربياً، ومقاتلاً شرساً. غريب الاطوار، وهوالذي اقترح التحية للحزب الفاشي برفع اليد اليمنى للامام، الا انه متعدد المواهب، فهو شاعر وكاتب مسرحي وروائي وصحافي ورسام، كان شديد الجاذبية باناقته المفرطة، يعشق التباهي بنفسه ومفرط في ذاتيته، يهوى الالقاب والحياة الباذخة، متطلع بكليته الى البحث عن الاحاسيس النادرة والمثيرة التي لاتطيق التضييقات والمسايرات، تميز بقدرته الفريدة على الاستيعاب، والتنوع في مؤلفاته، ويعود له الفضل في إرهاف القيم اللغوية والشعرية والموسيقية في الشعر الايطالي المعاصر.
لقد كتب الشعر وهو بعد في المدرسة الثانوية ونشر ديوانا اسماه (الربيع) يحمل تأثير شاعر ايطاليا الكبير (جُزويه كردوتشي). ثم وضع كتابا يخلد فيه مدينة “بيسكارا” التي تقع على ضفاف بحر الادرياتيك التي ولد وترعرع فيها. والتي صار ابوه رئيسا لبلديتها في بداية الثلاثينات والتي حفظت له فيما بعد وفاء كبيرا بتحويل بيته الى متحف يضم حاجياته وكتبه ورسائله ومخطوطات رواياته ومقتناياته ورسوماته، وأطلقت اسمه على جامعتها الرئيسية وساحتها والعديد من مؤسساتها الثقافية.
كان ترتيبه الثالث بين ثلاث شقيقات وأخ صغير، عاش طفولة سعيدة، وأتقن خمس لغات في سن 16، ورث دانونسيو عن والدته مشاعره المرهفة، وأخذ عن أبيه مزاجه المتفائل، بعد الانتهاء من دراسته الثانوية انتقل للعيش في روما والتحق بكلية الآداب. في عام 1881 ولمدة عشر سنوات بدأت علاقته بالمركز الثقافي في روما، حيث تشكلت رؤيته للعالم وتبلورت شاعريته، مارس العمل الصحفي وتجلت موهبته في كتابة التقارير الإخبارية، وتزوج في عام 1883 وانتهى الزواج بانفصال قانوني بعد بضع سنوات، على الرغم من أن دانونسيو كان على علاقة جيدة بزوجته، حظيت روايته الأولى “متعة” عام 1889 على شهرة واسعة، بين عامي 1891 و1893، عاش دانونسيو في نابولي وأبدع ديوانيه “الأبرياء” و”انتصار الموت” ولوحظ عليه التأثر بكتابات فريدريش نيتشه، وفي 3 مارس 1901 افتتح “جامعة ميلانو الشعبية”، وألقى خطاب التنصيب كما قدم فيها عددا من المحاضرات والدروس الثقافية، وفي تلك الفترة اقترب دانونسيو من التجمعات الماسونية الايطالية.
في عام 1882 بدأ باصدار مجامعيه الشعرية، عبّر فيها عن روح التجريب والعاطفه الحسّيّه التي ميزت ادبه. كما لدانونسيو العديد من الاعمال المسرحيه مثل “المدينه الميتة” و “فرانشيسكا دي ريميني”، “ابنه اوريو” و”الحقيقه الخافيه”. وبعد تلك الفترة تفرغ بكتاباته للتحريض بخوض الحرب ضد امبراطورية النمسا، وضد القوى اليسارية والعمالية الايطالية وتنظيماتها السياسية والنقابية، وقد اثرت لغته التحريضية وشجاعته المتهورة في مشاركة إيطاليا في الحرب العالمية الاولى وصعود موسوليني لاستلام السلطة في البلاد، والمشاركة في الحرب العالمية الأولى.
كتب روايته الشهيرة(البريء) التي ترجمت الى العربية، ضمن إطار فعاليات «عام الشعر» الذي نظمه المعهد الثقافي الإيطالي بالقاهرة بتمويل من الاتحاد الأوربي، تحت عنوان «كلام للشباب»، أقام المعهد مؤتمرا بعنوان: «دانونسيو في العالم العربي»، إحياء لذكرى ميلاد الكاتب الإيطالي الكبير «جبراييلي دانونسيو» المائة والخمسين، بالتعاون مع بيت الشعر وجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا ومؤسسة بسكارا والفيتوريال. وشارك بالمؤتمر مجموعة كبيرة من النقاد والشعراء المصريين والإيطاليين. وتناول ثلاثة محاور هي: دانونسيو وشوقي، دانونسيو.. فارس الكلمة، ودانونسيو والعالم العربي.
اما في روايته (اللذة) فقد ربط فيها ما بين النثر والشعر بتحقيق نمط جديد في الفن القصصي في بداية العشرينات من القرن الماضي. وتعتبر هذه الرواية من وجهة نظر النقاد، أنضج اعماله واصدقها تنبع فيها الحماسة من ايمان المؤلف بنفسه. اما روايته (ربما نعم وربما لا) فهي من اغنى رواياته التي تمجد بطولة الانسان وتساميه في الحياة. اما الثلاثية التي حملت عنوان (روايات الوردة) فكان فيها متأثرا بكتابات تولستوي ودوستوفسكي ورائد الواقعية الايطالية جوفاني فيرغا، وانعكست تلك التأثيرات باعماله الروائية اللاحقة مثل رواية (يوحنا الاسقف) و (ظفر الموت).
اما في مجال الكتابة المسرحية فقد كتب عدة مسرحيات ومثلت على خشبات المسرح في عدد من المدن الايطالية والفرنسية، وركز في بناء عمله المسرحي باستخدام المشهد وعدم التركيز على معركة الافكار كما هو الحال عند معاصريه. وفي سنواته الاخيرة اختلى في دار كبيرة تحوي قاعة مسرح كبير وصالة عروض تطل على بحيرة غاردا االايطالية الشهيرة سياحيا في الشمال، منصبا على الكتابة، وعندما توفي، تحولت تلك دار الى متحف يحمل اسمه.
دفعته الرغبة في إظهار شجاعته إلى المخاطرة بالموت وكاد يفقد عينيه فى احدى المعارك الحربية. قبل بداية الحرب العالمية الاولى، اشتد الصراع بين دول التحالف الذي كان يضم ايطاليا وفرنسا وانكلترا ضد هيمنة هنغاريا على مدينة “فيومي” التي كانت احدى الموانىء الاستراتيجية التي تطل على بحر الادرياتيك (إحدى المدن الرئيسية في كرواتيا اليوم)، حيث كانت تسودها اغلبية تشعر بالانتماء الى ايطاليا وبها 14 مدرسة ابتدائية 12 منها تدرس مناهجها باللغة الايطالية.
وبعد هزيمة النمسا بالحرب وسحب هيمنتها من فيومي حاول ابناء هذه الاخيرة الاستنجاد بالقوات البحرية الايطالية في البندقية للتدخل من اجل الحاق مدينتهم بالسيطرة الايطالية، الا ان التحالف كانت له مطامع متعارضة فيما بينهم وبين رغبة الايطاليين بضم فيومي الى البلد الام، وسادت الاوضاع الايطالية في داخل ايطاليا مطالبات من قبل مؤسسات وفصائل تضم تجمعات المحاربين القدماء، بالتدخل لحماية فيومي وضمها الى احضان الوطن باعتبارها مدينة محتلة، الامر الذي اضطر البرلمان ومجلس الشيوخ الاقرار بضرورة التدخل لحماية فيومي، الا ان الحكومة الايطالية آنذاك لم توافق على التدخل، مضطرة للرضوخ لطلب الحلفاء بضمها الى كرواتيا.
شعر دانونسيو بالاهانة من موقف حكومة ملك ايطاليا انذاك “اومبيرتو الثاني” الذي ادانه بالتخاذل في واحد من بياناته النارية، فجمع عام 1919 عدة مئات من انصاره في مقاطعة الابروتسو وعاصمتها الاقليمية مدينة بيسكارا التي ولد فيها، في حملة غرضها تحرير مدينة ” فيومي” التي اعتبرها محتلة، فوصلها ليلا مع جحافل المريدين والمناصرين المتعصبين المسلحين وعلى رأسهم جماعات المحاربين القدماء، وفرض هو ورجاله السيطرة على دار البلدية ورئاسة الشرطة وقوات الدرك، والمراكز الحيوية المهمة في المدينة، ليعلنها جمهورية مستقلة رسم لها علمها وصاغ لها دستور ووزع رجاله ليتولوا المناصب الحساسة بدولته فيومي الصغيرة.
واستمر وجود هذه الميلشيات حتى نهاية 1919 بعدها تعرضت لقصف جوي مكثف من الجيش الإيطالي بأمر من رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك جيوفاني جوليتي، أجبر بعدها على الانسحاب والاستسلام. وهي حاليا بعد الانعتاق من يوغسلافيا السابقة فقدت اسمها والشيء الكبير من جمالها لتصبح جزء من دولة كرواتيا الحالية.
وحال استلام بتينو موسوليني السلطة في البلاد بعد نجاح مسيرته الشهيرة من ميلانو الى روما وتكليفه بتشكيل الحكومة، سارع الشاعر دانونسيو لتأييده، وبالرغم ان موسوليني رأى فيه حليفا الا ان العلاقة بين الرجلين كانت خليطاً من الإعجاب والحذر؛ فقد كان موسوليني في البداية يعارض بشدة الغزو الإيطالي لليبيا، ودخول إيطاليا في الحرب العالمية الأولى، على عكس دانونسيو تماماً. وقد رفض دانّونسيو أن يرتبط بحكم موسوليني، أو أن يكون عضواً في الحزب الفاشي، أو أن يحمل البطاقة الفاشية. ولكنه قبِل عام 1937، بعد إلحاح شديد من موسوليني، تولى رئاسة الأكاديمية الملكية الإيطالية. أسندت إليه هذه المهمة بعدما كبر سنه، ولم يعد يشكل خطراً على نظام الحكم. رفض حضور أي اجتماع من الاجتماعات، ومات ولم يضع رجله أبداً في مقر الأكاديمية. أقام له موسوليني جنازة رسمية في إيطاليا، وسار شخصياً في جنازته مرتدياً سترة الأكاديمية الرسمية.
وقد فازت الكاتبة الانكليزية لوسي هيوز هاليت عام 2008 بجائزة صمويل جونسون البريطانية للأدب الواقعي عن كتابها «الرمح» الذي ألفته عن حياة الشاعر الإيطالي جابرييل دانونسيو. وأوضحت لجنة الجائزة في بيانها أن الجائزة تمنح للكتابة الواقعية باللغة الإنجليزية وتبلغ قيمتها 20 ألف جنيه إسترليني.