هناك ما يكفي من الاهوال والكوارث التي تجعلنا في شك وقلق دائم، ازاء كل ما يصدر من قرارات وتشريعات وتوجهات في هذه المرحلة الاشد هشاشة وبؤساً في تاريخنا الحديث. وما الفزعة الاخيرة لتحويل محافظة البصرة الى اقليم، الا مثال صارخ على مثل تلك الهرولات التي لا تكف عن الهروب بنا الى الامام، من دون ادنى حس بالمسؤولية بعاقبة مثل هذه الخيارات، لا سيما وهي تحظى بكل هذا الدعم والتأييد من نفس القوى والشخصيات التي ادارت خراب البصرة وغيرها من محافظات العراق الجنوبية طوال 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للاعمار والبناء. لست ضد “الحق الدستوري” الذي يتمترس خلفه دعاة اقليم البصرة، فهناك عدد لا يحصى من الحقوق الدستورية، التي ما زالت بهمة هذه الطبقة السياسية لا مجرد حبر على ورق وحسب، بل نجدها على أرض الواقع قد تطوبت لصالح من يمثل الضد النوعي لتلك الحقوق والحريات والقيم. لقد برهنت تجربة ما بعد زوال النظام المباد؛ على وجود خلل واسع وعميق يقف بالمرصاد لكل مسعى يهدف الى انتشال العراق بكل مدنه وتضاريسه الممتدة من الفاو لزاخو، خلل وعجز عن انتاج البدائل السياسية والاجتماعية والقيمية الجديرة بالتصدي لمثل تلك المسؤوليات التدشينية في حياة المجتمعات والدول. ويمكن للمتحمسين كثيرا لمشروع اقليم البصرة، أن يلتفتوا قليلاً لما يجري في اقليم كوردستان، فبالرغم مرور أكثر من ربع قرن عليها ما زالت التجربة متعثرة وهشة وتواجه العديد من التهديدات الداخلية والخارجية.
ان المشكلة التي تواجه سكان البصرة لا تختلف عما تواجهه باقي المدن والمناطق العراقية، وهي لا تعالج بمثل هذه العطابات والعناوين الضخمة (اقامة الاقاليم او الانتقال الى النظام الرئاسي و غير ذلك من تقنيات اللف والدوران الرائجة في المشهد الراهن) والمراقب الحصيف من أهل البصرة يعرف جيدا حجم العجز والهوان الذي يعيشونه ويجعل منهم غير قادرين على انتزاع اهم منصب تنفيذي فيها (المحافظ) ممن أصبح عضواً في البرلمان وما زال متشبثاً بالمسؤولية التنفيذية الاولى في محافظتهم؛ فكيف يمكنهم التعويل على مثل هذه القفزة الكنغرية للانتقال الى عالم الاقليم، والقاصي والداني يعرف حجم هيمنة وتغول مؤسسات ما قبل الدولة الحديثة، من القبائل والفصائل المسلحة القابضة على مفاصل الحياة فيها من دون منازع شعبي ورسمي ودستوري..؟ البصرة وغيرها من المدن العراقية المنكوبة لا تحتاج لمثل هذه الفزعات البطرانة، التي تتيح لهذه الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة، من الاستمرار في اعادة تدوير نفسها واستنزاف المزيد من الجهد والامكانات، بعيدا عن مواجهة التحديات الفعلية للنهوض والتغيير. لا احد ينكر ما يتمتع به نظام الاقاليم من حيوية وخصائص سياسية وادارية، ارتقت بغير القليل من تجارب الشعوب والامم الى مستويات مشهودة من التقدم والاستقرار والازدهار، لكن ذلك لم يحصل لهم برفقة قوارض المنعطفات التاريخية، بل بنضج شروط ذلك التحول الحضاري، وعلى رأسها الوعي ووجود الملاكات والزعامات المتخففة من عقد القرون السالفة، وهذا ما لم ترصده أفضل الميكرسكوبات الالكترونية في المشهد البصري الرسمي منه والشعبي.
ما عرفناه وتابعناه قبل “التغيير” وبعده عن هذه القوافل والجماعات، يدعونا الى اخذ الحيطة والحذر وبشكل أشد عندما تستعين بالعناوين الضخمة وأشباه القادسيات للهروب مما ارتكبته من كوارث وأهوال…
جمال جصاني