ماراثونات الفساد والعجز والفشل وكل أشكال الفرهدة والحوسمة والشعوذة، التي أعقبت هدية الاقدار العابرة للمحيطات في التاسع من نيسان العام 2003 في استئصالها للغدة السرطانية المعروفة بـ “جمهورية الخوف”؛ قلبت كل المعايير والموازين والقيم في التعاطي مع هذا الحدث المفصلي في تاريخنا الحديث، حيث اصبح من النادر العثور على من يتجرأ بالافصاح عن المشاعر الصادقة التي استقبلت ذلك الحدث التدشيني الذي انتشل ما تبقى من حطام اقدم الاوطان، من يد حثالات البشر الذين عاثوا به فسادا وممارسات دونية لم يشهد لها مثيلا. ان يحمل فلول النظام المباد أعمق مشاعر الكره والحقد لتلك اللحظة التي شهدت تلقف شحطات أطفال بغداد لرأس الصنم في ساحة الفردوس، وانتشال شيخ الجرذان من جحره الأخير وغير ذلك من مشاهد لا يطيقونها؛ أمر طبيعي ومبرر. لكن أن يشاركهم هذه المشاعر من كانوا ضحايا لذلك النظام، فذلك يحتاج الى أكثر من بحوث ودراسات سياسية واجتماعية، الى الاستعانة بخبرات أطباء نفسيين كي يفككوا لنا طلاسم مثل هذه التبعية والدقلات خلف الجلاد وواجهاته الجديدة.
ليس غريبا على من ادمن حياة العبودية والخنوع؛ القاء اللوم على شماعات الآخر (الداخلي والخارجي) فهذه من شيم هذا النوع من المخلوقات التي لم تعرف سيرتها الفردية والجمعية، مواقف مسؤولة وشجاعة لا تتهرب من مواجهة التحديات والمخاطر مهما عظمت واشتدت. لذلك نجد غالبية القوى والكتل التي تلقفت مقاليد الوليمة الجاهزة (اسلاب ومناصب وعناوين النظام المباد..) لا تحمل نفسها ولا جيوش حبربشها وقوارضها البشرية أدنى مسؤولية عما حصل لما يفترض انه عراق ما بعد “التغيير”. ليس هذا وحسب بل نجدها قد سارعت لشفط وتسخير الموازنات الاسطورية لتجنيد جيوش من العاملين في مختلف الاختصاصات المعنية بتزييف المعلومات عما حصل ويحصل، ليكون بعيدا عن اقطاعاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. مثل هذا النوع من حطام المخلوقات “السياسية والاعلامية والثقافية والاكاديمية و…” هل يحتاج الى من يتآمر ضده..؟ هم كفيلون بالاجهاز على أفضل المشاريع والتطلعات المشروعة والفرص. وهذا ما دونته بكل وضوح تجربة 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للتحول صوب الديمقراطية والتعددية وبناء دولة القانون والمؤسسات، أي العراق الاتحادي الديمقراطي.
نحتاج الى قليل من الشجاعة والانصاف، كي نواجه حقيقة امكاناتنا الضحلة التي تقف خلف كل هذه الهزائم والاخفاقات، وطبيعتنا الانهزامية المدمنة على القاء التهم على الأشباح والشياطين من شتى الوظائف والاحجام. على عجزنا وفشلنا في وضع تشريعات تعيد لنا بناء التنظيمات والاحزاب على اساس وطني وحضاري، وتمهد الطريق امام وصول الانسان المناسب الى المكان المناسب. فالانتقال الى الديمقراطية سيبقى يدور في هذه الحلقات المفرغة من المتاهة، من دون وجود احزاب وطنية وديمقراطية، وهذا ما برهنته التجربة برفقة هذه القبائل السياسية القابضة على مقاليد امور حقبة الفتح الديمقراطي المبين. ما يحصل مع هذا الحدث التاريخي الذي وثقته التقنيات الحديثة لوسائل الاعلام العالمية بالصوت والصورة؛ يعكس قدرة ذلك الحطام البشري والقيمي على اعادة ترميم قدراته ونفوذه وتأثيره، وهذا ما يمكن تلمسه في غالبية المواقف الرسمية والشعبية من ذلك الحدث الذي تقوضت فيه قضبان أكبر قلاع الاستبداد وأشدها اجراماً وخسة..
جمال جصاني