بالرغم من مرور عامين على اعلان تحرير الموصل من قبل الحكومة العراقية، الا ان المتابع المطلع على تاريخها الحديث، يعلم جيداً حجم الالتباس والتعقيد الذي يعصف بخيارات هذه المدينة العريقة. وما سقوطها بيد عصابات داعش الهمجية والاجرامية صيف العام 2014 وخضوعها لسلطته طوال 3 سنوات، وما حصدته من دمار لا مثيل له بشرياً ومادياً وقيمياً؛ الا مؤشر صارخ على حجم التناقض الذي ترزخ الموصل واهلها تحت وطاته. عند ولادة العراق الحديث (في العام 1921) انخرطت نخب وشخصيات موصلية بارزة في الانتصار لذلك المشروع الحضاري والحداثوي، وتقلد الكثير منهم مواقع ومناصب مهمة في الدولة العراقية الفتية، لا سيما بعد ولادة الجمهورية الاولى (1958-1963) غير ان نجاح الامكانية السلبية في التحول الى واقع واغتيال المشروع الوطني الحضاري بواسطة “اوباش الريف وحثالات المدن”، انعكس بشكل مأساوي على العراق بشكل عام والموصل بشكل خاص. من المحطات المسكوت عنها والتي تعرضت الى تضليل ومسخ وتشويه لا مثيل له؛ هي ما جرى في الموصل من تصفيات وعمليات تنكيل واسعة ضد القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية فيها، حيث تمكنت قوى الردة الحضارية من اخلاء هذه المدينة العريق من أفضل ما انجبته من شخصيات وتنظيمات وقيم حداثوية وتنويرية.
عند تلك المحطة المشينة في تاريخنا الحديث، يمكن التعرف على جذور الوباء الداعشي من شتى العناوين والواجهات والمدونات، والذي عصف بالعراق وباقي المدن العراقية ومنها ثاني المدن العراقية بعد العاصمة بغداد، والتي ما زالت الى يومنا هذا عاجزة عن انتاج وامتلاك المصل المضاد لكل اشكال الدعشنة والقوافل المنحدرة اليها من الصحراء ومغارات تورا بورا، والاطراف الهامشية المسكونة بقيم الشراهة وضيق الافق والعداء لكل ما له صلة بعالم الانتاج والابداع وسيادة دولة القانون والمؤسسات الحديثة. من دون التشخيص الدقيق والمسؤول والشجاع لما جرى لهذه المدينة؛ ستبقى خطط ومشاريع “البناء واعادة الاعمار” مجرد أوهام وخربشات لا ناصر لها، وهذا ما اكدته بقسوة حادثة “عبارة الموت” التي خطفت ارواح العشرات من المحتلفين بقدوم الربيع وعيد النوروز غالبيتهم من النساء والاطفال.
الاحتلال الذي نتحدث عنه؛ هو ما يتعلق بالغزوة القيمية والديموغرافية لمدينة هي الأقرب الى نماذج المدن التي عرفتها سلالات بني آدم بعد الثورات الصناعية والعلمية، من حيث اضمحلال نفوذ ودور القبائل، وتعاظم دور المهنة والصنعة في رسم اسلوب ونمط الحياة فيها. هذا الاساس المادي ما زال صامداً بالرغم مما تعرض له من حملات ظالمة، لم تخفت بعد “التحرير” وحسب بل ولجت الى اطوار جديدة ومبتكرة. ان اساليب الحياة المتخلفة والتي رافقت تغول نفوذ تشكيلات ما قبل الدولة الحديثة، هي المسؤولة عن القسم الاكبر لهذه الفوضى وضياع المعايير التي تعيشها هذه المدينة العريقة، ومن دون وجود وعي لهذه المخاطر وارادة لكبح جموح واستهتار هذه الجماعات المتنافرة وروح المدن الحديثة؛ تتحول أفضل الخطط والمشاريع الى مجرد تمنيات مقطوعة الجذور. بعد هذا المشوار المرير والتجارب القاسية، يحتاج اهل الموصل لوقفة مسؤولة وانعطافة شجاعة وواعية، تعيد لمدينتهم العريقة ريادتها ودورها في صناعة العراق الجديد، المتحرر من وباء التشرذم واوهام القادسيات والرسائل الخالدة…
جمال جصاني