كثيرًا ما يعتقد بعضُ المبدعين بأنَّ نظريات الشعر وكلام النقاد لا يأتي بالجديدِ إليهم، فهم غيرُ مهتمين بالمصطلحات الشعريَّة، أو بالحديث عن عوالم الشعر الداخلية التي يحاول النقاد إثقال الشعر بما ليس فيه، ومن هنا نجد دائمًا – الا في استثناءات قليلة- ثمة قطيعة واضحة بين الشعراء والنقاد، وما جلساتُ المهرجانات، ومنها المربد، الا مصداقٌ على ذلك، فالشعراءُ يريدون من النقادِ الاستماعَ لهم، وهو كذلك، لأنَّ من مسؤولية الناقد هو متابعةُ التجارب الشعرية، والبحث عمَّا يدهش ويأتي بالجديد، بينما نجدهم يبتعدون عن جلسات النقد، وكثيرًا ما نجدهم عند أبواب القاعة يتحدثون في أمور عابرة لا شأن لها بالشعر والنقد، وربما نجد منهم من يلقي بنقده على المهرجان والقائمين عليه؛ لأنه لم يقدم اسمه على غيره، أو يصبّ جام غضبه على النقاد أنفسهم؛ لأنهم لم يلتفتوا إلى موهبته الضاجة بالشعر.
ولم يدر هؤلاء الشعراء المحترمون أن الموهبةَ وحدها غيرُ قادرةٍ على تكوين صوت شعري، يستطيع أن يجدد في أدواته الشعريَّة، فقد تنحسر وتخفت لسبب أو لآخر، وهناك كثير من البدايات الشعرية لو فتشت عنها لم تجد لها ذكرًا اليوم، وهذا ليس محصورًا في القديم فحسب ؛ بل ثمة تجارب عربية قديمة مازالت تجودُ بالشعر على الرغم من تقادم الزمن، ويمكن الحديث هنا عن أبي تمام والمتنبي والشريف الرضي والمعري ومهيار الديلمي، والقائمة تطول حتى نصل إلى أعقاب العصر الحديث، بل والأهم من ذلك صرنا نقف عند ظاهرة (الشاعر الناقد) كثيرا، إذ امتزجت تجربة الشاعر الناقد معًا، ولم يأتِ هذا الشعور من فراغ، بل من إحساس الشاعرِ نفسِه، بأن حاجته إلى المعرفة والثقافة لا تقلُّ عن حاجته إلى أدوات الشعر نفسه، من لغة وتقنيات، وما إلى ذلك من أمور تتعلق بالقول الشعري.
وهنا يجب الانتباه اننا لا نتحدث فقط عن الشعر بوصفه معرفة؛ بل -وهو أمر أصبح مفروغًا منه في العصر الحديث- صرنا نحن النقاد والأكاديميين، نبحث عن المصادر الثقافية والمعرفية للشعراء والمبدعين بشكل عام، وصارت القصيدة، قبل أن تكون لعبة كلمات، معرفة منغمسة في علوم ومعارف كثيرة، من فلسفة وتاريخ، وعلوم تجريبية، وعلم النفس، والاجتماع، وغير ذلك. أقول ليس هذا كافيًّا بالنسبة للشاعر، فثمة حاجة ماسة للشاعر لفهم آلية الشعر الخفية، وطرائق القول الشعري، وما يتحكم بها، وهو ما عبر عنه الناقد ياسين النصير في كتابه (حجر الحروب ص: 17، بالقول:» فليس الشعر كتابة وحسب؛ إنما هو فهم لآليته الخفية التي تتحكم بالقول الشعري».
وهنا واضح أن النصير يدعو إلى ثقافة شعرية يتسلح بها الشاعر قبل أن يخوض في القول الشعري، فالشعر – والكلام للنصير نفسه- « ما عاد… قولًا بلا تأسيس، أو قولًا بلا فهم، أو قولًا بلا نظرية، أو قولًا بلا معرفة حقيقية بالنقد وميادينه المتغيرة».
فالشعر بهذه المعنى الذي قصدته، لا يرقى إلى روح الشعر مالم يحوز على قدرٍ كبيرٍ من الوعي، والمعرفة والقصدية، فلا شيء في هذا العالم يأتي صدفة، أو يكون عفويًّا، أو معبرًا عن حالة انفعال آنية، والشعر جزءٌ من هذا العالم، فلا بدَّ أن نغادر مفهوماتٍ سابقةً لم تعد صالحة للحياة في عصرنا الراهن، فلا شعر حقيقي من دون جرعة وعي كافية تجعله قادرًا على تحويل كل شيء في الحياة إلى قول شعري مندمج بالحياة ومنغمس فيها.
فالشاعر الذي نريد ليس الذي يجيد القول الشعري بأنواعه المتعددة؛ بل هو الشاعر الذي يجمع الموهبة والثقافة ومعرفة آليات القول الشعري التي لا يعرفها الا من حاز على ثقافة شعرية متجددة ومتجذرة تضئ معالمه الشعرية وتضعه على طريق القصيدة الحقيقية.
وأخيرًا أن مناسبةَ ذلك القول ما سمعته من أحد الشعراء وهو يقدم ناقدًا، بأنَّه يقرأُ كتبَ النقدِ بينَ الفينةِ والأخرى، وإن لم يكن من اختصاصه، لأنَّه شاعرٌ. وقول مثل هذا يمكن يكشف لنا عن حجم المحنة التي تعيشها القصيدة العربية، وسط استسهال كبير لكتابة الشعر، وسهولة نشر ما يكتب، وإن لم يكن حائزًا على شروط كتابة الشعر الحقِّ.
د. جاسم حسين الخالدي