ميشرافي عبد الودود
في السنوات من 1930 إلى 1935، وهي السنوات التي تدهورت فيها صحة فرناندو بيسوا بوتيرة متسارعة أدت إلى القصور الكبدي الذي تسبب في موته 30 نوفمبر 1935، شكّل استرجاع الطفولة المفقودة الغنائية المستحوذة التي رشحت على سطح قصائده العاطفية. وتمنح هذه النصوص المتأخرة فرصة نادرة للتعرف على بعض ملامح شاعر اللاطمأنينة الذي «لم يكن أبدا»، ومارس لعبة الاستخفاء تحت أسماء مستعارة كثيرة طوال حياته.
شهران قبل رحيله، كتب الشاعر أحد أصدق وأعمق النصوص على الإطلاق: «ليلة في ليما»، حيث يستدعي صورة الأم التي تعزف على البيانو أغنيةً بنفس العنوان تتكرر هنا كلازمة للفقدان، السكينة في البيت العائلي بجنوب أفريقيا، ضوء القمر، الأخت الصغيرة النائمة، بيسوا طفلا وشاعرا يمزقه الندم، وزوج الأم المثالي المستريح على الأريكة…
للمرة الأولى والأخيرة يقبل فرناندو بيسوا الميلودرامي المتعدد المتخفي بالظهور العلني من وراء الستارة السوداء بوجهه المكشوف الذي مزقته الأقنعة المطاطية اللاصقة موقعا «صورة الفنان في شرخ الشباب»؛ صورة حية نابضة بالألم الذي نفض يديه من كل أمل مستحيل؛ كأنما يعتذر متحسرا بعد فوات الأوان من نفسه ومن الجمهور من إطالة أمد لعبة التخفي والتعذيب.
القصيدة صوداد (مفردة برتغالية لا يوجد لها مقابل في اللغات الأوروبية)، وهي مزيج شعوري يختلط فيه الحزن والحنين والأمل. وبحسب بيسوا «الصوداد هو شعر الفادو» القريب نوعا ما من الفلامنكو الأندلسي، وهما يشتركان في وحدة الفاجعة: نكبة العرب في الأندلس سنة 1492، ونكبة البرتغال بانهيار أحلام الامبراطورية في معركة القصر الكبير سنة 1578.
ليلة في ليما
ألاّ تُبقي هنا في دُرْج
ألاّ تُبقي هنا في جراب
مختوما، متبلورا، مكتملا
هذا المشهد كله
ألاّ تنتزع عنوةً
من الفضاء، الزمن، الحياة
مُحتَجِزا في مكان ما
من الروح حيث ستبقى مدخرة
للأبد حيةً، ساخنةً
هذه الصالة، هذه الساعة
العائلة بأسرها، السكينة والموسيقى بالداخل
لكن حقيقية على صورتها هناك
الآن، مرة أخرى
عندما كنتِ ماما، ماما، تعزفين
ذات ليلة في ليما
أين توجد الساعة، البيت، الحب؟
عندما كنت تعزفين ماما
ذات ليلة في ليما؟
وفي زاوية من الأريكة
أختي صغيرة وملمومة
لا أعرف إن كانت نائمة أم لا
وبرغم الدموع، لا تخطئ
الذاكرة التي أحملها
خط الميدالية الرفيع
لهذه الجانبية الأكثر من رفيعة
قلبي، فيما يتذكرك، وديعة ورمادية قبل الآن
يبكي، قلبي الذي لك دائما، والذي دائما طفلا
أرى أناملك على لوح البيانو
فيما ضوء القمر بالخارج للأبد بداخلي
أنت تعزفين على قلبي، بلا نهاية
ذات ليلة في ليما
لكن حبّكِ كان يرشح فوق كل شيء
الصمت الفادح للأشياء المنتهية
يداك الصغيرتان والجميلتان جدا
في رهافة مغتبطة ومألوفة
في ابتسامة لا تسع
سوى سرمدية الإنسان
كنتِ تسحبين السكينة من البيانو
ذات ليلة في ليما.
لم أكن أعرف وقتها أنني كنت سعيدا
الآن فيما لم أعد الذي أنا، أعرف جيدا أنني كنته
«هل نام الصغار على الفور؟
- لكن أجل، لقد ناموا على الفور
- هذه تقريبا نائمة».
فيما أنتَ مبتسما ومتجاوبا تكمل
ما كنت تلعب –
كنتِ تعزفين متأنية
ذات ليلة في ليما.
كل ما كنتُ عندما لم أكن شيئا
كل ما أحببتُ وما لا أعرف حقا
أنني أحببته إلا من انسداد الطريق اليوم
إلى أدنى تحقق
من فراغ يدي إلا من لوعة الصُوداد –
كل هذا يجِيش بداخلي
عبر الأضواء، الموسيقى، ورؤيا
لا تتناهى
من هذه الساعة الأبدية في قلبي
التي كنت تقلبين فيها
الصفحة الخيالية للموسيقى الملعوبة
بينما أنا أنصت إليك، وأراك
تتابعين
اللحن الأبدي
الغريق
في القاع الأبدي لهذه النوستالجيا
عندما كنت أمي، تعزفين
ذات ليلة في ليما.
«هذه أيضا مستغرقة في النوم… - لا إنها ليست نائمة».
ثم أخذنا جميعا نبتسم
وبشرود تابعت
الاستماع في ضوء القمر
الذي يشعّ في الخارج عنيفاً ومفرداً
ما جعلني أحلم بلا انتباه،
ما أحلم به اليوم من أسفي على نفسي - ضفة ثالثة