لو لم يبادر موظف كبير في الدولة الأيوبية في مصر ويصنف كتاباً عنوانه الفاشوش، لبقي ذكر رجل اسمه قرقوش خاملاً، ولما تداول الناس أخباره، وجعلوا منها مضرباً للأمثال.
ولو أن مؤلف الكتاب رجل مغمور لما جرؤ أن يصنف مثل هذا الكتاب، ولآثر أن يسلم أمره إلى الله، ويعتكف في داره. فمثل هذا النقد اللاذع الذي سطره كفيل أن ينهي حياته دون كثير عناء!
ولكن هذا لا يعني أن المؤلف كان قد أمن شر قرقوش، أو أنه كان حراً في الكتابة، أو أنه لم يخش الأذى. لكنه استغل الظرف المناسب، واغتنم فرصة انقلاب السلطة، فأرضى الحاكم والمحكوم على حد سواء.
كان قرقوش واسمه بهاء الدين بن عبد الله الأسدي، مملوكاً رومياً لأسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي، فأعجب به وأعتقه. فكان أن انتسب إليه وتسمى باسمه. وحينما أسقط صلاح الدين الدولة الفاطمية عام 1174 للميلاد، تولى قرقوش الوزارة له، وأخذ ينوب عنه في غيابه. وبقي في منصبه في عهد ابنه الملك العزيز. ثم تولى الوصاية على حفيده المنصور. وانقسم الناس في ذلك ومال أكثرهم إلى تولية الأفضل بن صلاح الدين بدلاً عنه. فاعتزل قرقوش السلطة ولبث في داره حتى توفاه الله عام 1200.
أما المؤلف فهو الأسعد بن مماتي الذي ينحدر من أسرة قبطية اعتنقت الإسلام. وقد أسند إليه صلاح الدين رئاسة ديواني الإنشاء والمال. وكان كاتباً معروفاً ترك أكثر من (30) كتاباً في الأدب والشعر والتأريخ والتراجم، سلك في بعضها أسلوب الدعابة، مثل كتاب «الفاشوش في حكم قرقوش» وكتاب «قرقرة الدجاج في ألفاظ ابن الحجاج»!
لقد وضع الأسعد بن مماتي كتابه الفاشوش بعد أن قلبت الأيام ظهر المجن للوزير قرقوش، وكان هو ميالاً لحكم الملك الأفضل. ولسوء حظه لم تطل أيام الأخير إذ تغلب عليه عمه الملك العادل، فهرب ابن مماتي إلى حلب، وأقام عند الملك الظاهر بن صلاح الدين، وتوفي هناك عام 1209.
في هذا الكتاب حكايات وأخبار تظهر الوزير الأكبر في غاية البطش ونقص الكفاءة وقلة الدراية وسوء الخلق. يقضي برأيه دون رقيب، ويصدر أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان بغير ما حسيب!
وقد تولى تنفيذ العديد من المهمات التي كلف بها بنجاح، مثل بناء قلعة المقطم، وتشييد سور القاهرة، وإصلاح سور عكا، بطريقة السخرة. واضطلع بتصفية المكتبات الفاطمية العامة، وقام بحجر الأمراء الفاطميين واستولى على ممتلكاتهم، ومنع اختلاطهم بالنساء حتى لا يبقى منهم باق.
لقد كان السلاح الذي استخدمه ابن مماتي في التشنيع على خصمه الوزير قرقوش، والسخرية منه، وإدانة سياسته، ناجحاً. حتى بات اسمه يقرن بكل ما هو شاذ وغريب، ومنكر وقبيح. رغم المبالغة الواضحة في التصوير. فهذه هي إحدى أسرار الصنعة على أية حال.
محمد زكي ابراهيم