اذا ما شئنا توصيف حالنا الثقافي، في هذه المرحلة، وقد قطعنا عقدا ونصف من سقوط سيادة الثقافة الواحدية، فيمكننا ان نقول اننا نمر في مرحلة انتقال ثقافي معقدة، في وسائل التعبير عنها، او في مضامين الانتاج الابداعي، بل ويمكن ان لا نختلف ونحن نقرر بان انماطا من الاساليب والمضامين الابداعية في الشعر والفن التشكيلي والموسيقى والقصة والرواية تتصالح وتتصارع الآن في آن واحد، وليس ثمة ما يؤشر الى معركة فاصلة او انتصار نسق من الانساق المتشابكة.. وإذ نتقبل، دونما تشبث، ما يمكن تسميته بتعددية اسلوب التعبير، فاننا قليلا ما نتعامل مع مضامين مخالفة برحابة صدر، وهو ارث سلبي له امتداد بعيد وعميق في الثقافة الوطنية إذْ تفاقم بمديات كبيرة خلال عهد الدكتاتورية حين سادت الرقابة «الامنية» والواحدية الثقافية ولغة التخوين، ولجأ الكثير من منتجي الثقافة الى الهجرة او الصمت او «الاحتيال» على الرقيب باللجوء الى الترميز والتمويه والتغريب، هربا من الاملاءات والتنكيل، ولا اتحدث عمن وضع ابداعه طائعا في خدمة تلك المرحلة ورموزها.
وفي حين تعبّر مرحلة الانتقال الثقافي عن نفسها في اشكال واضحة للعيان يسهل رصدها مما يصدر من مطبوعات وكتب في الادب والثقافة وما تعرضه الصالات والمحافل من اعمال وتأملات وما يتمثله الجمهور المتعلم من هذه الثقافة في حياته واشواقه فان طابع الفوضى واصطدام الحافات والانفعالية التعبيرية هو السمة المميزة لهذه المرحلة، فيما ادى غياب الرقابة الرسمية الى ترك الباب مفتوحا للغث الثقافي، واغاليط المعلومات والكيفيات، والحال، فان الارصفة الارصفة بالكتب والاصدارات الخالية من الف باء شروط النشر وسلامته، وأنا هنا لا اروّج لحنينٍ الى عهد الرقابة الامنية الثقافية، بل ادعو الى وضع معايير لسلامة الانتاج الثقافي والى مرجعية مستقلة لتدقيق وتصويب هذا الحال.
وإذ نتحدث عن منطق العقل العلمي في الانتاج الثقافي فاننا ينبغي ان لا ننسى بان زج المنطق في الجدالات ينطوي، من وجهة نظري، على عبث لا طائل منه، فان جميع قضايا المنطق كما يذهب الفيلسوف النمساوي فيتغنشتاين «تقول الشيء نفسه، أي لا تقول شيئأ» الامر الذي يدعونا الى القول بان لكل عقل منطقه وادواته وجمهوره، وجوب ان نركز على العقل العلمي ومكانة هذا العقل وتحدياته في هذه المرحلة المعقدة بمواجهة عقل الخرافة والضلالات والتهريج والتلفيق.. واحسب ان للعقل العلمي تجليات كثيرة اشير هنا الى ثلاث منها لغرض تبسيط المناقشة وتسهيل التوصل الى تلخيصات نافعة:
1 – ان العقل العلمي يشتغل على اطلاق الثقافة (وكل مسميات التفكير) الى مديات غير مكتشفة ولا مسكونة بوصفها شكل المستقبل وفرص العدالة والرخاء والحرية، وذلك بوسائل الجدل والتجريب والتعددية وعدم الخوف والتسامح، خلاف العقل المحافظ اللاعلمي المنكفيء الى الماضي والماضوية.
2 – ان العقل العلمي نقيض نزعة الاتكال التي يتخندق فيها العقل اللاعلمي، فليس ثمة من يعرف بدلا مني اذا ما اردتُ ان اعرف، ولا ان ينوب عني في ما يتعلق بمصائري وبالاسئلة التي تحيطني.. فان العقل يستطيع بالتجربة ادراك المعارف المستعصية ويخلق، بنفسه، ادوات الحماية من التحديات والاخطار.
3 – يتجه العقل العلمي، في الثقافة، الى اغلاق مسارات الانحدار نحو الاستبداد وشطب سيادة القِوى، والى رفض التمييز بين البشر والشرائح والمجتمعات، واعتبار الانسان حاضرا في صناعة الاقدار وخلاقاً لها، وفي هذا يخوض العقل العلمي الثقافي صراعا متعدد المستويات مع العقل اللاعلمي الذي يرخص للمستبد ويسهل الاذعان له ويضفي عليه هالة زائفة من موصوفات الالهام والاقتدار.
*****************************************
*كلمتي الى فعالية العنقاء الثقافية- العمارة 28-12-2018
عبدالمنعم الاعسم
الثقافة ومنطق العقل العلمي
التعليقات مغلقة