يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 50
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: اما يحتمل أن يكون الجيش قد اقدم على هذا دون علم من السلطة المركزية في بغداد وان الكيلاني قد ارغم على التستر عنها ؟
ف رأيي هذا حسن نية يقرب من السذاجة فما صدر من الكيلاني قبل المذبحة وبعدها وماجرى في الفرات الاوسط في 1935على يده وبأوامر صريحة رسمية منه دليل على قسوة هذا الرجل وطباعة الدموية بل كان مجرد غرامه الجنوني بوزارة الداخلية دليل بحد ذاته على ولعه الشديد باستعماله سياسة البطش والتنكيل في معالجة المشاكل الداخلية وكما سأوضحه لك بعد قليل
س: اكانت وزارة الداخلية بهذه الاهمية كما قلت بحيث ينافس عليها الكيلاني ولا يقبل بغيرها ؟نحن نعلم الان أن وزارة الخارجية في اميركا مثلاً في هي اهم الوزارات وان وزارة المالية في إنكلترا هي اهم الوزارات
في العشرينيات والثلاثينيات كانت وزارة الداخلية اخطر وهم وزارة عراقية فقد ارتبطت بها مديرية الدعاية وخضعت لها مديرية السجون ومديرية الصحة وكل هذه اصبحت في الخمسينيات وزارات مستقلة ويسيطر وزير الداخلية على قوى الامن ومديرية الشرطة والتحقيقات الجنائية والادارات كافه بما فيها المتصرفيات (المحافظات) وكانت المخصصات السرية للدولة تحت تصرف وزير الداخلية فقط فله سلطة الأشراف على قرارات وزارة المالية المختصة بشؤون العشائر وبيده نصب أو عزل رئيس القبيلة المعتمد لدى الحكومة خلاصة القول ان سلطة وزير الداخلية ونفوذة كان اكبر من سلطة رئيس الوزراء وسلطة الملك لذلك وجدنا الكيلاني لايرضى بغيرها عندما يكلفه أحد بالمشاركة في الوزارة ان لم يكن هو رئيس حكومة وهذا ماكان يخلق ازمات وخلافات حادة بين رجال الحكم بل كان الكيلاني يخلق الازمات ويفتعلها كلما طلب منه المشاركة فيصر على أن تكون هذه الوزارة من حصته ويكشف هو نفسة ن ذلك الغرام الجنوني برساله شخصية لمؤلف كتاب تاريخ الوزارات العراقية اثبتها نصاً وكان ذلك في العام 1935قال الكيلاني :_وكان يستخدم ضمير الغائب لاالمتكلم _لما كلف الملك ياسين الهاشمي يتألف الوزارة قال له ان (علي جودت الايوبي) و(جميل المدفعي) رجياه أن لايدخلني في وزارته ولاسيما كوزير داخلية لأنهما يعتقدان بأنني من اقوى العوامل التي ادت الى سقوط وزارتيها لاتصالي الوثيق برؤساء القبائل من جهة وخشيتهما من ان ابعد اعوانهما من الوظائف من جهة اخرى ولما فاتحني الهاشمي برغبة المال كلفني الدخول في وزارته كوزير للمالية وكانت نية الهاشمي متجهة الى الداخل حكمت سليمان كوزير للداخلية فاعتذرت عن قبول هذا المنصب لعدم المامي بالشؤون المالية)
وفي هذه المناسبة لم يفلح الهاشمي في تأليف الوزارة فكلف (جميل المدفعي)والفها من دون الكيلاني طبعاً الا انه لم يترك المدفعي في راحه لأنه اهاج قبائل الفرات الاوسط الموالية له فأعلنت العصيان وسادت الفوضى البلاد واسرع المدفعي المعروف بالمسالمة والبعد عن المشاكل الى الاستقالة كانت اقصر الوزارات عمراً واستقالت بعد عشرة او احد عشر يوماً من تشكيلها وتم للكيلاني مأراد وجاء وزيرا للداخلية في الوزارة التي شلها ياسين الهاشمي كان الكيلاني ايضاً مبتدع لعبه اثارة قبائل الفرات الأوسط لغرض اسقاط الحكومات ونقلها عنه الآخرون وجرعوه غصصا كما جرعهم غصصها وقد وجدناه في كل الاحوال لايهتم بمقدار مايسفك من دماء ولا مايهدر من اموال عامه خلالها طالما يحقق بذلك غرضاً أو يثبت له مركزاً
ها هو هاذا يتعرض الى ثورة عشائرية ترمي الى اسقاطه شبيهة بتلك التي عملها ليكرر المذبحة عينها في الجنوب كالتي عملها في الشمال من قبل أقل من عامين وبعين الاداة واقصد(بكر صدقي) فتجده يلح على تزكيته وتعينه قائداً للقوات الي وجهت الى سوق الشيوخ والرميثة والديوانية حيث شبت نيران الانتفاضات العشائرية المسلمة في عام 1935.
واني لاحضر في ذهني تلك المجازر التي ارتكبت وتلك القصبات والقرى التي طالتها يد الكيلاني ولا أستطيع أن امحو من ذاكرتي رؤية منظر مدينة سوق الشيوخ وقد بدت لي أنا ابن الثانية عشر كدجاجة المنتوفة الريش كما ارادها الكيلاني ان تبدو فقد امر بكتاب رسمي صريح بقطع تيجان زهاء عشرة آلاف نخلة من حواليها عقاباً على تمرد شيوخها وكنا قبل ذلك لانشعر الا ونحن نجوس خلال شوارعها لكثافة النخيل حولها بحيث يحجبها عن انظار القادم أمر الكيلاني بقطعها فبدت جذوعها منتصبة بالالاف مثل اعمدة بناء يوناني متقوض منظر مربع لايبرح ذاكرتي انك لتجد نص هذا الأمر أيضاً في تاريخ الوزارات العراقية وتاريخه في الثالث من حزيران 1935 وهذا العقاب الذي آمر به الكيلاني احتواه البند الثامن نمن العقوبات الاخرى وتضمن البند الاخير هذا الامر توقيف جميع الاشخاص الساكنين في المدن والقصبات سواء من الموظفين أو الاهلين والذين هم ذوو علاقة بحركة التمرد أو التحريض عليهم وسوقهم الى المجلس العرفي العسكري لمحاكمتهم”واذكر اننا فقدنا للسجون
في هذه المواجهة الكاسحة من الاعتقالات ثلاثة م أعضاء أسرة التعليم تتضمنن مدير معارف اللواء ومدير متوسطتنا واستاذ العربية كما استقلت السجون عدداً من طلابنا معظمهم لم يتجاوز سن الحلم وبلغ عدد الذين حكم عليهم بالاعدام 63وزاد عدد المحكومين عن الثلاثمائة في ظرف 49يوماً من نشاط المجلس العرفي ولايعلم عدد من قتل من القبائليين على طريقة مقاتل جبل بيخير في 1933 وطبق مارتبه الكلايني بعد قيام المذبحة الاشورية جاء يالملك غازي الى الديوانية ايضاً واجرى عرضاً عسكرياً كان هو وبكر صدقي نجمية
ورفع بكر صدقي بناء على توصية الكيلاني الى رتبة فريق استثناء لكثرة القتول الى اقدم عليها بنفسه وجنوده وقد نسجت حولها الحكايات والقصص في الجنوب
تفتق ذهن الكيلاني عن طريقة فذة لعقاب البارزانيين جزاء انتفاضة العام نفسة وحلف ان يقضي على مادعاه بعصابة ملا مصطفى وتابعه خليل خوشفي فأعلن الاحكام العرفية في الزيبار وراح يطارد هذا الثائر ويلاحقه ليؤتي له برأسه مقطوعاً وخيل له ان مصدر قوه البارزانيين يكمن في عمائمهم الحمراء فجعل من شروط الاستسلام “ترك الاعمتمر باليشماغ الاحمر واتخاذ الشيماغ الازرق!”
واذكر بالمناسبة اني كنت اقرأ مره هذه الفقرة الأخيرة في احد الكتب لاحد اصهاري وكان يجيدالفكاهة والتعليقات الذكية فكر قليلاً ثم علق قائلاً “لابد وان يكون في طبع الكيلاني شيء من طباع الثيران المصارعة الاسبانية التي يهيج هياجها عندما يلوح لها بالخرقة الحمراء!”
واوقع الكيلاني بالكرد الايزيدية مذبحة قانونية عسكرية في عمليه احتجاج مسلحة حول التجنيد الاجباري كان يمكن حلها من دون اطلاق عيار ناري
واحدد ولكنه أراد أن يلقنهم درساً أيضاً فضرب جبل سنجار بالمدافع وفتك جيشة بكل من وقع بيده واحرق قرى برمتها وارسل مجلسة العرفي العسكري هناك ليصدر احكاماً على مايقارب الاربعمائة بينهم تسعه حكوما بالاعدام فأمر بتنفيذه فوراً بموجب صلاحيته في ذلك الحين وبوصفة وكيلاً لوزير العدلية وكل ذلك تم خلال ثمانية وعشرين يوماً
امتهان الدستور والقوانين الشاذة
س:ذكرتم عرضاً في الحلقات السابقة أن للكيلاني دوراً جوهرياً في اهدار الحريات الديمقراطية وامتهان الدستور
مما يضاعف جناية الكيلاني على الحريات العامة ماضية العلمي وثقافته القانونية كان لفترة استاذ مادة قانون العقوبات في كلية الحقوق وهو واثق قانون صلة بحرية وحقوق المواطن وان الكيلاني في رأي أول من اختط سنه اصدار المراسيم المقيدة والصادرة للحريات واول من استخدم المجالس العرفية العسكرية بنطاق واسع وبقسوة ضربت بها الأمثال وكان قبل ولوجه ميدان السياسية قاضياً مدنياً يفهم حساسية ميزان العدالة أكثر مما يفهمه زملاؤه الساسة الذين تخرجوا من مدارس عسكرية عثمانية وأول ما يخطر ببالي من مراسيمه هو مرسوما ساط الجنسية عن العراقيين الذي أصدره في العام 1933 أيام كان رئيس حكومة ونزع بمقتضاه الجنسية عن بطريرك الاشوريين بضعة وعشرين من اتباعه وآل بيته ثم مرسوم الادارة العرفية السيء الصيت الذي قام بصياغته وتقنيه بالعام 1935أيام كان وزيراً للعدلية بالوكالة في الوزارة ياسين الهاشمي وثم مرسوم صيانة الأمن العام وسلامة الدولة الذي اصدره في 1940 أيام رئيسا للوزراء
والمرء ليعجب حقاً لقصر نظر أمثال هؤلاء الرجال الطغاة واستهتار وشعور مطلق بالامان من طائلة هذه القوانين الجائزة التي استنوها للاخرين دون ان يفكروا يوما ستطبق عليهم وعلى اخوانهم وزملائهم فمثلا طبق قانون اسقاط الجنسية على الدكتور ساطع الحصري واحمد قدري ودرويش المقدادي وعدد من القوميين اصدقائه في العام 1943 كما طبق مرسوم الادارة العرفية عليه هو نفسه وعلى شركائه في حركة مايس ونال به حكم الاعدام وطبق المرسوم الثالث على جميع الذين شاركوا في حركة مايس باعتقال المئات منهم وزجهم في معتقلات الجنوب بعد نهاية الحركة.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012