يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 17
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: قد يخرج الاستيضاح الثاني عن منهاج الحوار الذي تحدد عند بدئه وهو يتعلق بالكاتب (ارثر كويتسلر ) وقد قدمتموه للقراء مفكرا مستطار الشهرة . وتمثلتم بموقف له مماثل لموقفكم في انتظار الموت . يبدو انه غير معروف هنا . هل ترجم كتابه الذي نوهتم به؟
وردتني استفسارات ماثلة من قراء اقوالي هذه التي تنشر . في الواقع ان الخروج عن النطاق المرسوم عادة للاجوبة المعقدة سلفا , لا محيض عنه . لا سيما في ذلك الفضاء الواسع الذي وضعتم به أسئلتكم الاصلية . وفي نفسي الكثير مما ارغب في القول عن هذا الكتاب الالمعي . وهو من المعاصرين وربما كانت وفاته في الثمانينات . واسمه مخلد في الموسوعات العلمية الكبرى . كتب كتابه الذي نوهت به وعنوانه الاصلي تأملات في عقوبة الشنق) اثناء انتظار تنفيذ حكم الاعدام به في مدينة (برشلونة ) بأسبانيا . وكان وقتها مراسلا لجريدة الديلي ميل (ان لم تخني الذاكرة) اثناء الحرب الاهلية الاسبانية في 1937. والاعلام العالمي يتحدث عن مساندة المانيا هتلر وايطاليا موسوليني العسكرية للجنرال فرانكو قائدها . واصر (كويتسلر ) ان يبقى في المدينة رغم التحذير , لتسجيل دخول القطعات العسكرية الايطالية المدينة فقبض عليه وصدر الحكم بشنقه وبقي طوال تسعين يوما يسجل احاسيسه وانفعالاته على ورق لفائف السكاير التي كان سجانوه يزودونه بها يوميا حارما نفسه من لذة التدخين . الا ان الجمهوريين الذين كانوا يدركون قيمته الفكرية وفقوا في انقاذه بمبادلته بطيار فرانكوا الخاص الذي اسروه ولا اظن كتابه هذا قد ترجم الى العربية . الا ان شهرة المؤلف استطارت لتجعله في عداد الكتاب الإنسانين العالميين , كانت في كتابه الروائي السياسي الموسوم (ظلام في الظهيرة) وهو الذي ترجم الى العربية في لبنان وقد وقعت له بيدي ترجمة فيما بعد . اذ اني اقتنيت الكتاب بأصله الانكليزي حال صدوره وقبل سنوات عدة بعد ان طبع عدة طبعات ترجم الى اكثر من عشرين لغة . وبقي اشهرا عدة يحتل المقام الاول في قائمة اصدارات الكتب الشهيرة . اهمية هذا الكتاب الذي الف على شكل رواية تتجلى في اعطاء تفسير مقنع , (بدا صائبا تماما بعد سنين ) لظاهرة الاعترافات التي رافقت المحاكمات الستالينية الشهيرة لرفاقه من قادة الحزب الشيوعي الكبار ومخططي ثورة اكتوبر الاشتراكية خلال الفتر المنحصرة بين 1973و1939 . وقد ظهروا في المحاكمات العلنية التي عقدها لهم ليقروا على انفسهم طواعية بأنهم جواسيس وعملاء لدول عدوة . ومخربون , رجال من امثال (زينوفيف ,وكامينيف ,وبوخارين ورايدنك ).
وعشرات غيرهم . ثم ليعدمهم الحياة صفقة واحدة وسط حيرة وانذهال الرأي العالمي . كانت تمثيلية شيطانية وحيلة انطلت على الصحافيين الاجانب الذين تابعوها وخدعوا بها مثلما انطلت على الدبلوماسيين الذين حضروها . ومما اذكره في هذا الصدد ما جاء في مذكرات اول سفير أميركي الى الاتحاد السوفياتي “جوزيف ديفيز ” الذي حاول عبثا ان يتبين في هيئات المتهمين وتصرفاتهم ما ينم على تعرضهم الى اي شكل من اشكال التعذيب الجسدي او اي ظاهرة تدل على ان نوعا من اكراه وضغوط جرت بحقهم وهم يسابقون المدعي العام في طلب انزال اشد العقوبات بأنفسهم.
ثم جاء”كويتسلر” بكتابه هذا ليكشف القناع عن حقيقة هذه المحاكمات الصورية . وفيه التعليل الصائب والجواب الصحيح عن الوسائل التي اعتمدت في حملهم عن الاقرار بتلك الذنوب الخيالية. وصعق العالم الحر وذهل المعقبون السياسيون ز لهذا الاقرار الروتيني بجريمة الخيانة العظمة لنظام كانوا بناته والرؤساء . وعملت من كتاب كويتسلر تمثيلية كم اخبرني الدكتور محمد فاضل الجمالي عرضت في واحد من اشهر مسارح نيويورك في برودواي ودام عرضها اشهرا.
واستنت قوانين صارمة في البلدان الاشتراكية تقضي بأنزال العقاب بمن يتداول الكتاب . ثم بدت صحة ما توصل اليه هذا الكاتب بعد خطاب (خروشوف) في مؤتمر الحزب الشيوعي للعام 1956 وفيه كشف عن حقيقة الغول البشري ستالين , وبدأت الحكومات المتعاقبة في الكرملين تعيد الاعتبار لهؤلاء الذين اعترفوا بجرائم خيالية مؤكدة صحة ما توصل اليه هذا الكاتب العظيم من تفسير .
واعتقد ان في هذا الكفاية من التعريف .
وضعنا مشروعا للحكم الفدرالي
س: سننتقل الى السؤال ذي الأهمية الخاصة . علمنا أنكم كلفتم بين العامين 1973و1974 من قيادة الثورة الكردية بأعداد مشروع للفيدرالية يقدم الى الحكومة المركزية . أين صار المشروع ؟ هل تتذكرون اهم بنوده وفقراته؟
ليس بوسعي الاجابة على هذا السؤال بالشكل الذي وضعتموه قبل قيامي بتصحيحه قليلا وجلاء بعض غموض فيه او بالأحرى محاولة نقله من التعميم الى التخصيص .
فأقول مبدئيا في العام 1973 لم يكن هناك حديث قط عن اعداد اي مشروع خاص بالثورة حول الفيدرالية او الحكم الذاتي كما لم يكن هناك حديث عن الفيدرالية لا في هذه السنة ولا في السنة التي تلت , وهي السنة التي اذنت بختام فترة الاربع سنوات التي حددها بيان الحادي عشر من اذار . وانما كان الامر كله يدور حول شكل الحكم الذاتي المزمع لاقليم كوردستان العراقية . وحول ما اذا كان يتفق مع تطلعات الثورة واماني الشعب الكوردي في العراق . وبكلمة اخرى حول امكانية اتحاد مفهومنا له مع مفهوم الحكومة المركزية مجرد اقوال فحسب . في نظري كان يجب ان نستبق الى اعداد مشروع خاص بنا يحمله اخواننا الذين ذهبوا للمفاوضة فيه . الا انهم في الظاهر كانوا ينتظرون ما ستقدمه الحكومة المركزية من مفاهيم . كان هناك وقت ملي لاعداد شيء من هذا القبيل . ثم, وبعين المنظور الم يكن من حقنا المطالبة بتأليف لجنة مشتركة من الجهتين للصياغة القانونية عندما ازف الوقت ؟ ويعين الوتيرة التي جرت مفاوضات العام 1970 على وضع بنود اتفاقية اذار ؟
كل ما اعرفه في هذا الصدد ان السلطة في بغداد اعدت مشروعها ودفعت بنسخة منه لوفدنا هناك وفيه معظم اعضاء المكتب السياسي وعضو في اللجنة المركزية وبعض القياديين الاخرين الذين شاركوا في مفاوضات “السلام” .
من القياديين الذين تخلفوا الدكتور محمود عثمان . وعنه تسلمت المشروع الحكومي بغية درسه . كما تسلم غيري نسخا منه . وطلب مني ايداء الرأي فيه . ثم حصل اجتماع صغير في ناوزبردان وبين الحاضرين الاستاذ المرحوم ابراهيم احمد والمرحوم عمر مصطفى والسيد شفيق القزاز . وبعض اعضاء في اللجنة المركزية .
كان الاستاذ ابراهيم ورفاقه من جماعة جريدة “النور” قد انتقلوا الى حريم الثورة واستقروا هناك حيث المقر العام للثورة والحزب ولست ادري اكان حضوره في تلك الساعة التي جرى خلالها البحث حول المشروع الحكومي بمحض اتفاق وصدفة ام كان بناء على طلب محمود عثمان . وأظننا اتفقنا جميعا على ان المشروع المقدم ليس حكما ذاتيا وانما هي مجموعة احكام تتضمن طريقة اقامة تشكيلات ادارية محضة منحت سلطات محدودة تحت اشراف الحكومة المركزية المباشر وعلى ان تكون الكلمة النهائية في معظم الامور –ان لم يكن كلها –للسلطة المركزية . كان هذا امرا طبيعيا من وجهة نظر الحكومية . عندما سبق ورفضت رفضا باتا اثناء مفاوضات اذار عودة الحياة البرلمانية على اساس الاقتراع العام السري الحر المباشر . وكان مفهوم الحزب دائما وابدأ بل وفلسفته التي تبلورت خلال ايام القتال العصيبة والمفاوضات المتعددة الا يكون هناك حكم ذاتي حقيقي الا بوجود الديمقراطية .
انا شخصيا وجدت هذا المشروع الحكومي اوسع بعض الشيء من قانون الادارة المحلية الساري المفعول لا اكثر , وانه مستمد رأسا من الروح التي املت على حكم البعث اصدار قانون اللامركزية قبل استئناف القتال في تموز 1963 الذي رفضته قيادة الثورة جملة وتفصيلا .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012