في مجموعتها الشعرية “تقاويم الوحشة ” كولالة نوري تستدرج الشعر للحوار مع عقلها وعواطفها في أصعب مراحل حياتها

محيي المسعودي
ككل المبدعين، عبرت الشاعرة العراقية – كولالة نوري- عن همها الذاتي والوطني والانساني في مجموعتها الشعرية- تقاويم الوحشة- الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام 2005 ولكن ثمة خصوصية تنفرد بها نوري في التكوين- كشاعرة وشعر- إذ أنها كردية من كركوك وقد تشكلت ثقافتها ووعيها في تلك المدنية- مصغر العراق الجغرافي – طبعية وانسانا- ولكن الثقافة واللغة العربيتين كانتا الأكثر هيمنة على وعي الشاعرة، وهي تعيش في كركوك – بحكم ظروف اجتماعية وسياسية وجغرافية، استمالت الشاعرة أو فرضت عليها هذا الميل .. ومع كل هذا التأثر تجردت نوري من الانتماءات العرقية والثقافية لصالح الانتماء الانساني ليس عن فلسفة وتأمل ولكنه، الألم والمأساة التي مرت بها، مما وضعها – في زيت المقلاة الساخن – مع جميع أبناء بلدها – العراق – في حينه – أولا ومن ثم مع الآخرين وحسب وعيها ومعايشتها لهم، وهذا ما نقرأه في قصيدة – نورس مرتجل التي أهدتها الى شقيقة الألم كما وصفتها وهي الشاعرة والكاتبة الفلسطينية غاده خليل. وتقول في القصيدة المك وطن / يمضغ حبله السري/وتقولين المشيمة/تسرحين خصلات الاه/وانت تفكين أزرار الذاكرة /عن سواحل (الخليل) .. صحيح أن الكاتبة خليل ترتبط بعلاقة صداقة مع نوري ولكن ماهية العلاقة تكمن في فقدان الوطن .. ومن هنا كان ألم نوري بفقدانها الوطن هو المشترك بينها وبين غاده خليل التي فقدت وطنها أيضا .. لم يكن الفقدان – الوطني – عند نوري سياسيا أبدا، بل كان فقدان بيئة ومجتمع وعلاقات انسانية بحتة. انه فقدان المجتمع بوشائجه وطقوسه وتقاليده.. فقدان البيئة بمناخها وطقسها، بأشجارها وأثمارها .. بقسوتها وحنوها .. ونتلمس ذلك في قصيدتها المهداة الى روح العتال ابو ناهدة، والتي تقول فيها ( جاء عام وانتهى عام / ولم يجيء الوطن الموعود / ولا سماء فضة لعربات بيضاء / ولا اعراس لنساء العراق الجميلات / لهن الان خمار من وعيد / وعمر تائه / في دقيق عجن مع مجنون حروب…..) وفي قصيدة أخرى نرى جانبا من الوطن ( العراق) في عيني نوري حيث تقول من قصيدة أخيرة للوطن :
(الوطن حلم قديم – الوطن حرب قديمة – الوطن القديم مغلق – الوطن القديم سكين في الخاصرة -الوطن القديم اغتصب الطفولة
ومساءاته صدئة – الوطن حلم جديد – الوطن موت جديد – الوطن حرب جديدة – الوطن الجديد عاصفة في الرأس – الوطن يدخننا
الوطن ديناميت من اربعة مسامير والعشاق لا يملكون فيه ذكرياتهم وانا ليس لدي سوى ذكرى قديمة – لا خدع الليل –
إنني عشت يوما آخر)
وفي هذا الأبيات نستطيع تلمس حجم الإحساس بفجيعة وفقدان وتدمير الوطن، وهناك تفاصيل كثيرة في القصائد الأخيرة من الديوان، تحدثت عن الصور المرعبة التي يعيشها العراق، حتى أنها قالت في إحدى قصائدها: ( حبيبي/ وأنت قد عدت/ الى بلد النخيل وقطاعي الرؤوس….) وتدلف نوري في تفاصيل الحياة العراقية بعد الاحتلال / فتقول : ( كانوا يحلمون على رصيف عار / وقال المفخخون – وليس الله- أنهم ذهبوا الى الجنة / وقال أبناء الحمالين اليتامى/ لن نطلب العلم الى اللحد / علينا أن نرتق على الرصيف/ أحلام أبائنا المتناثرة /…/ … ). إنها تصف قتل الحلم العراقي بالتعليم والنجاح والحياة الآمنة والسلام .. ولكن لم تكن قضايا الوطن لدى نوري تحتل المساحة الأوسع من مجموعتها الأخيرة – تقاويم الوحشة – بل جاءت بعدد قليل من الصفحات الأخيرة.. ولكنها مثقلة بمفاصل وتفاصيل الحياة العراقية ابان الاحتلال وبعده .. وجاءت هذه القصائد الاخيرة كمفتاح يفك به القارئ ذلك الحزن والألم واليأس والغضب الذاتي الذي أثقل معظم الديوان. ومنذ البداية وبرر للشاعرة ذلك الميل المرئي وغير المرئي للتغرب والالتحاق بإنسان سبقها الى هناك .. الى جانب هذا رصدت نوري مأزق الأصدقاء والأقارب في الغربة، وتعرضت لغرائبهم وأوهامهم.. فهي تقول في قصيدة حد من الملح:
في بلدان بعيدة وغريبة – يقبع الاصدقاء – احدهم.. يعمل ثلثي اليوم – فقط .. – كي ينسى انه بعيد وغريب – أو ليبرر رحيله من جمرة القلب. – وآخر.. الأسى علامته القديمة – يباغت نفسه والاخرون – بموت متكرر من اجل موجة – لن يمسكها يوما..!
وذلك الذي يشبه ايماناً شارداً – يشعل قناديل الطفولة – في منافي النصوص, – وعبثا يرتب – الرهان على مقاسه – واخر ايضا
بعد ان عبر تخوما – من مياه وسراب – يلعق كاسا فارغة – ليعوض انزياحه عني – لحظة احتضار – وخامسهم – لم يجد وهمه
وهو الان – يبني فرحه القادم – على مفاجأة من نداء.
وتبقى الصورة المهيمنة على المجموعة هي الهم والعلاقة الشخصية التي تربط الشاعرة بإنسان آخر هو – زوجها- فتغرق القصائد بالهموم الذاتية للشاعرة.. ابتداء من طفلتها التي تشاركها الواقع الصعب والمرعب وانتهاء بالأصدقاء الذين يحيطون بها.. وتضعنا نوري بشعرها على شرفة تطل على حياتها الخاصة.. وهو نوع من أصدق أنواع الشعر وأكثره قيمة، وإن كان بعضه على حساب – المقومات الفنية – كونه سيرة ذاتية.. وتأتي الصور التي تقدمها كولالة نوري – عن حياتها في – البرزخ- وهو مكان ما بين دنيا تحترق وجنة باردة فتقول: – الغربة – تجمد الدم في العروق – مع هذا تأتي هذه الصور متباينة وإن غلب عليها اليأس والغصب والجفوة وحتى البرود .. ولكن كل ذلك حصل بفعل قوة الألم الذي يجد في الشاعرة بيئة خصبة للنمو والتعاظم .. لأن قلبها اتخذ صفة الزرقة – أي الصفاء والزرقة.. كما أن جسدها كان يساعد الألم على الطغيان والاستبداد في الشاعرة. وربما نتلمس ذلك من خلال هذا المقطع الشعري : (جسدك ربوة / مفخخة بالنحل / وجسدي ادلاء خونة !!) وهنا تصور الشاعرة ضعف جسدها لوجود الخونة فيه امام الجسد الذكوري المفخخ بالنحل – العسل واللسع – تمارس كولالة نوري الحياة في مجموعتها هذه وتصف المفاصل المهمة فيها والتي تصل أحيانا الى احتقار أو ازدراء الذكر- الرجل – والتمرد عليه ولكن بالكلام فقط من أجل استفزاز ذكورته- ففي هذا المقطع نتلمس كل ذلك فهي تقول 🙁 والستائر المغلقة للغرفة / لن تغويني بعد الان.. / ولا تسوءني حياتك المليئة بعيدا عني!! / قد أواعد صديقا على الشاطئ / دون أن أخشى وقوعه في غرامي/. لم أعد أحبك كثيرا /فلم تعد ملاذا / لعطش السراب ) وتؤكد كولالة وفاءها رغم كل ما تقول وتصرح به عن ذلك في هذا المقطع ( طاف سبعا حول اسي/ كان فلولا من هررة برية / وانا قطة تموء باسمك وحدك) وتؤكد ذلك في مشهد اخر وهي تقول : (صف لي جسدي / دع حبك يرقص قليلا / محض وجودك/انعتاق…) وجود حبيبها انعتاق- اذن الغربة شكلت كل تلك الاغتصابات ..والتي تمثلت بالعزلة والحزن والتمرد واليأس والجفاء والعناد ولاستلام والاستهتار بالقيم وبكل مقومات العلاقة الثنائية .. ولكنها لا تفتأ تردد حبه على اسماع عشاقها ومريديها فهي تخاطب وسيما يراقصها: (سعيدة ايها الابله / لأنني ببساطة أحب / وحيدة لان حبيبي .. /كان غبيا حين تركني/هذه الليلة..!)
واذا كانت المجموعة تحمل كل هذه التناقضات في المشاعر والافكار والرؤى، فإن مرد ذلك – حتما لحياة القلق والرعب والخوف التي كانت تعيشها الشاعرة وقد صورتها بصدق وشاعرية عالية وإن غلبت عليها- المباشرة- في معظم الصور.. واذا كانت المجموعة كقصائد شعرية ناضجة ومستوفية شروط الشعر – كل على انفراد، فإن مجموعها تمثل رواية شعرية تتحدث فيها الشاعرة كولالة نوري بالخطاب الشعري وليس بالسرد الروائي عن مفاصل فترة زمنية من حياتها كانت الاكثر ايلاما والاخطر نتائج على مستوى الفرد – متمثلا بها- اي بالشاعرة وعلى مستوى المجتمع متمثلا بمجتمعها العراقي ومجتمعها الخاص من أصدقاء وأقارب ومعارف. ونلاحظ أن نوري في كل قصائدها تقريبا توجه الخطاب لرجل بعينه لا شك أنه زوجها.. الذي افترق عنها – لاجئا أو مهاجرا- الى بلد بعيد.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة