شكيب كاظم
هذا الكتاب حوى آخر ما كتب استاذي الدكتور علي جواد الطاهر، من مقالات نشرتها جريدة (الثورة) في يوم محدد هو الخميس، احتراماً للقارئ ووقته، ومن قبل القارئ، كاتب المقالات، كي يستطيع القارئ متابعة ما ينشر، معيدين للأذهان ما اجترحته جريدتا (السياسة) و(الجهاد) المصريتان من منقبة، في سنوات العشرين والثلاثين من القرن العشرين، نشر حديث ثقافي تراثي للدكتور طه حسين (توفي 1973) يوم الأربعاء من كل أسبوع، وهو الذي جمع هذه الأحاديث ونشرها في كتاب حمل العنوان ذاته (حديث الأربعاء).
أقول هذه المقالات هي آخر ما كتب أستاذي الطاهر، ولأنها تعود الى سنتي 1995 و1996، حيث توفي – رحمه الله- في التاسع من الشهر العاشر سنة 1996، بسبب استفحال المرض الوبيل، والمرض هو الذي دفعه الى إعادة النظر في هذا المكتوب وتهيئته للنشر.
الكتاب هذا عنوانه (الباب الواسع) أصدرت دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد طبعته الأولى سنة 2021، في ضمن سلسلة (الموسوعة الثقافية) وحمل الرقم 180، كما حمل الكتاب عنواناً موازياً هو: (فصول غير ذاتية عن سيرة ذاتية)، مع أن لأستاذي الطاهر كتاباً عنوانه (فصول ذاتية من سيرة غير ذاتية) نشرت طبعته الأولى الدار العربية للموسوعات ببيروت، عام 1435ه- 2004 ويقع في أزيد من ثلاث مئة صفحة، الأمر الذي قد يوقع القارئ في اللبس والإيهام، ظاناً أنهما كتاب واحد…
عرف عن أستاذي الطاهر شغفه بالذي كتبه ونشره في الصحف المجلات، وقد حرص على نشر كل هذا الذي كتبه، حتى وإن كانت مقالات بسيطة قد تكون آنية بنت ساعتها ويومها، ومنها ما نشره في حياته مثل (الباب الضيق) وهي مجموعة مقالات قصيرة نشرها في مجلة (ألف باء) الأسبوعية، وقسم نشر بعد رحيله المؤسي، مثل بعض مقالات كتابه (كلمات) الذي نشرته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة 1997، مثل مقاله («الوجه الآخر» بسبعة فلوس) أو (أغنية يا شعبي العظيم)، لذا فإن هذا الكتاب في بعض مقالاته يعد من هذا الباب، وفيه عدد من المقالات الجيدة والرصينة، التي تحتاج الى وقفات ومناقشة وإبداء الرأي وتوجيه أنظار القراء الجادين، والدارسين إليها.
القصّ وليس السرّد
عُرف عن الباحث الرصين والناقد الدكتور علي جواد الطاهر، بحثه عن حقائق الحياة والأشياء، وعدم ركوب الموجات، التي يركض وراءها مطففو الكيل، بل له رأيه الدقيق في الكثير الذي يطرأ على حياتنا الثقافية، ومن ذلك مصطلح (السرد، السرديات، السرود) وغيرها من تصريفات كلمة (سرد) عوضاً عن مصطلحات (القص، القصة القصصية، الرواية)وغيرها، فضلاً عن وقوفه الجاد ضد تأثر بعض نقادنا بظاهرة (النقد البنيوي) أو (التفكيكي) ولاسيما سنوات حرب الثمانين من القرن العشرين، كي يتخلص بعضهم من تبعات النقد الواقعي، أو الواقعي الاشتراكي، ودخول معميات وطلاسم هذا النقد الناتج عن الأجواء الأوربية، الفرنسية تحديداً، للتخلص من عين الرقيب الثقافي! واصفاً البنيوية بأعلى مراحل السوء في نظرية الفن للفن، ناشراً مقالته المدوية تلك في جريدة (الجمهورية) في 8 كانون الأول 1985، ولأنها أثارت اهتماماً واسعاً، فقد أعادت جريدة (العراق) نشرها في 16 من كانون الأول 1985، وأخيراً أخذت مكانها اللائق بها في كتابه المهم (أساتذتي. ومقالات أخرى) الذي نشرته دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد سنة 1987، لذا فإنه يناقش مناقشة الخبير المتمكن هذا المصطلح (السرد) تاركين مصطلح (الفن القصصي) قائلاً: «وإلا فتعال وقل لي: ماذا في مصطلح «الفن القصصي» للعموم ومصطلح القصة والرواية للخصوص…؟ وإذا كان في هذا المصطلح شيء يعكر المجد فليكن بحثنا- أنت وأنا- عن مصطلح يزيد في رفعة القصة والرواية ولا ينقص. أجل، وها أنتذا فرح بكلمة مبتذلة هي «السردية» مشتقة من الفعل «سرد» وقد جمعت تحت كلمة «سرديات» (…) فالسرد أن تروي أي شيء كما رأيته وسمعته بعجره وبجره متتابعاً، وما هكذا يفعل القاص الفنان أو الروائي عندما يتبناه في قصة أو رواية لأنه يعيد خلقه ويمنحه قوته» واقفاً عند رأي المعجم في كلمة «سرد» وهو تقديم شيء إلى شيء تأتي به متسقاً بعضه في إثر بعض متتابعاً، سرد الحديث ونحوه يسرده إذا تابعه، وفلان يسرد الحديث سرداً، إذا كان جيد السياق له، وليست القصة أو الرواية تتابعاً وسياقاً، مؤكداً: لا، لا، لنضرب عن إطلاق «السرديات» على الفن العالي الذي صعدت إليه قصة جيخوف ورواية بالزاك» تنظر. ص17. ص19.
وإذ تعصف بأستاذي الطاهر أنواء الحياة وتصاريفها، ولاسيما الحصار والجوع، التي أتت على كل جميل في العراق، فلا ريب أن هذه الأمور تترك ظلالها الكابية على حياته، وهو الأديب مرهف الحس ومتوقده، فتساوره الظنون المتشائمة، ولاسيما بالإنسان لما يسمع ويقرأ ويرى، لكنه يعود إلى نفسه، والذي يعيده إليها، إلى النظرة المتفائلة أن يرى الإنسان ليس شراً شاملاً، بل ثمة الطيبة والخير والصدق والجمال ويجد الناس وهم يفعلون ذلك من غير دافع مصلحة شخصية، بل تصرف صادق لوجه الله والحق والحقيقة، ويوم يلتقي بأحد طلبته الجزائريين، الذي درسّه في خمسينات القرن العشرين، وبعد أربعين سنة يلتقي بهذا الطالب الذي سأله:
- أستاذ، أتدرى لماذا أنا احترمك؟
- لأنك كريم لطيف.
- لا، بل لأنك رسبتني بدرس الأدب الأندلسي.
أذكر هذا، والذين اشتددت معهم لا يحصون واشتددت حتى مع المجيدين ومع من أحببتهم وانتظرت لهم مستقبلاً» ص97.
وإذ لم يذكر أستاذي الطاهر اسم هذا الطالب، فإني أرى أنه الأديب الجزائري الدكتور أبو العيد دودو، ويكتبه الجزائريون (بلعيد) الذي ترجم رواية (الحمار الذهبي) التي توصف بأنها أول رواية في تاريخ البشر!
أما القراء الذين لا يعرفهم فهم كثر يقبلون مسلمين عليه، لا يذكرون أسماءهم، مؤكدين إنك لا تعرفنا ولكنا نعرفك فاسمح لنا بالسلام عليك والدعاء لك وإعلان الإعجاب بما تكتب (…) يسلمون في شوق ويمضون وكأنهم أدوا واجباً.