بغداد ـ حمدي العطار:
تعجبني قراءة اعمال آريان فهو يكتب من دون تعقيد ويعتمد في بناء الشخصيات على الانفعالات الداخلية وله اسلوب يكسر فيه بنية السرد التقليدية لتتحول كل شخصية الى سارد يختلف عن الاخر، وهو روائي خطير يتجاوز الخطوط الحمر في تابوات الجنس والسياسة وحتى الدين فتجد عباراته حادة وقاطعة لكنه يرسلها بأنسيابية (نباح الكلاب يغزو المدينة…وربما الكلاب النابحة هي رجال السلطة في مملكة الكلاب، دائما ما تجد رجال السلطة أكثر نباحا من غيرهم) ص 11 .
رواية (طرق مبهمة) من اصدار دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع، وتقع في 178 صفحة وتحتوي على 14 فصلا، يأتي الغلاف الذي يصور الحرائق لسيارة تسير الى الامام وتظهر تلك الحرائق خلفها في المرآة الامامية وهي ذكاء في التصميم يدل ان الحرئق اندلعت في الماضي (حروب النظام السابق- قسوة وظلم الاجهزة الامنية) كما انها لا تختفي من الشاشة التي تدل بإنها النيران مستمرة ،ويظهر الطريق ولا تظهر السيارة او من فيها دلالة على الابهام والغموض لتنسجم مع عنوان الرواية (طرق مبهمة).
وزيادة في ترويج النص الموازي فهناك مقولة لهتلر ذكرت في اول صفحة من الرواية قائلا «عندما تقود الحكومة الشعب إلى الخراب بشتى الوسائل والإمكانات يصبح عصيان كل فرد من أفراد الشعب حقا من حقوقه، بل واجبا وطنيا» والغرابة ان تنسب مثل هذه المقولة الثورية الى شخصية فاشية تنطبق عليها المقولة! اما التنويه المكمل للنص الموازي فيأتي قاسيا على لسان الروائي (تحتوي هذه الرواية على الأحداث الواقعية المقززة التي حدثت في الماضي القريب، أحداث لا بد من الحديث عنها ونقلها الى الاحفاد، حتى لو كانت بلون الدم ورائحة الخراء) اما الاهداء فهو لا يقل اثارة عما سبقه (إلى ذلك الذي كان آخر أنفاسه بارود الرصاصة وهو مقيد صوب كراسي رجال السلطة).
سطح المجتمع وليس عمقه
وانت تقرأ بداية الرواية تشعر ان الروائي مقتنع ان التغيير كان في سطح المجتمع ولكن العمق لم يمسه التغيير «هو لم يكن رجل دين، كان يتاجر بالدين، لذا قلت لك بسببه كرهت جل رجال الدين..من المخجل أن يتاجر أصحاب الكراسي بكراسيهم، والحكام بالدستور، ورجال الدين بالدين»ص58 هل ان شخصية موشي المسيحي والذي يتحول الى مسلم على يد شخصية الملا رامي وهما في سجن الفيلق العسكري وسبب سجن الملا رامي هو امتناعه عن حلق ذقنه! نقول كلام موشي عن ابيه الذي يعمل بالكنسية الا ينطبق على الحاضر! «كان بين ليلة وأخرى يأتي بأمرأة، حتى بدأت أسهر في الأسبوع أربعة أيام أو أكثر، أقابل والدتي وأبكي..والدي لم يخن والدتي فحسب، خان القيم الإنسانية والمعتقدات الدينية…السابع من أكتوبر 1970 خرج والدي من المنزل، برفقة إحداهن، كانت ممتلئة، شقراء، أتذكرها جيدا صاحبة التنورة القصيرة الضيقة،خرجا بقهقهاتهما، بعد الاستحمام، ولم يرجع إلا جثة يحمل سبعة عشر رصاصة في جسده..أحد الرفاق الحزبين،..كان يرغب أن يصل لجسد تلك المرأة، وعندما وجدها مع والدي إنهال عليهما بالرصاص، قتلها وقتل والدي»ص60 الروائي آريان يلتقط الجديد والمثير للدهشة من المألوف الدارج ، فهو بعد ان يجعل موشي يعلن اسلامه على يد الملا رامي يجعل امر الفيلق الذي زج الملا في السجن يرسل اليه لكي يعتذر ويطلب منه ان يكون امام ورجل دين الفيلق «لم أذق طعم النوم مذ ثلاث ليال..انت السبب. زوجتي تحلم كل ليلة بمجموعة من الأشخاص يقتربون منها يطلبون إطلاق سراحك» فيطلب منه الملا رامي ان يطلق سراح موشي ليكون مساعده في المسجد!»يطلق الآمر قهقهة قبل ان يقول: يا ملا رامي، موشي مسيحي/- كان مسيحيا، اما الان فهو مسلم، حتى إنه اختار اسما جديدا له طه»ص68
شخصيات رواية طرق مبهمة تخضع للتاريخ وللمكان تأثيرا كبيرا عليهم فقد اختار الروائي مدينة عراقية اشكالية (طوزخورماتو) سنتوقف على مصير الشخصيات في الجزء الثاني من القراءة النقدية.
العالم المرعب
يبدو لي ان الروائي آريان صابر احس ان تناول عالم السجون والتعذيب في اروقة دوائر الامن والاستخبارات في ظل نظام صدام لم يكتب احد عنها بالعمق الذي تستحقه! لذلك تصدى هو في روايته (طرق مبهمة) الى هذه المهمة والتي اعطى عنها تنويها بتوصيف (الأحداث الواقعية المقززة)! وبالتأكيد عمليات التعذيب وامتهان كرامة الجسد الانساني لا توفر متعة عند قراءتها! واذا كان الروائي يعيب النقص في تناول هذه الجزئية فالعمل الفني –تعيبه- ايضا الزيادة « كانوا يبحثون عن الاعتراف عليه مثل ذئاب متوحشة، ذئاب معتادة على تقطيع اللحم البشري برعب ووحشية قل نظيرهما»ص116 ويتعمق السارد بذكر تفاصيل نوبات صنوف التعذيب التي تمارس على الملا رامي، كل هذا يحدث بعد مقتل الشيخ ناظم العاصي مسموما من قبل احد (المصريين) الذي يتنكر ويطلب الحماية والعيش مع الشيخ مدعيا التدين وممارسة طقوس العبادة، وهي اشارة الى استغلال النظام السابق بعض الوافدين من مصر للعمل بالعراق بدلا من شباب العراق الذين يحاربون ايران في الجبهة فقد جند النظام بعض من هؤلاء للعمل في الاجهزة الامنية والتجسس على من يشكون بولائه للنظام والحزب والرئيس صدام « أنا محمود مهنتي معلم، جئتكم يا سيادة الشيخ كي أكون خادما لكم، أشعر وبسبب الحرب العراقية الايرانية ان وجودي في المحافظات يسبب لي المتاعب أرجو منك أن تقبلني عندك، وأعلم أن شيخا محترما مثل الشيخ ناظم العاصي لايرفض طلبا»ص70 .
السخرية منفذ
يستخدم الروائي السخرية وكذلك الفلكلور الكردي في الحوار بين الشخصيات لكسر الرتابة وحالة الحزن التي تتولد من التعذيب واجواء السجون القاسية، فالحوار بين الملا رامي ورفيقه في معتقل الشعبة الخامسة حسين تعطي هذا الانطباع المريح للقارئ «الله على تلك الأيام، الحياة هناك بسيطة للغاية ، كنا نستيقظ انا وصديقي شاسوار مع زقزقة العصافير، حيث رائحة التي كانت تحضرها أم شاسوار ، الله الله ..قاطعه الملا :- الله على الجشج، ذكرتني بغطور الشتاء يا صديقي/- نعم، أتذكر اليوم الذي استيقظت على صوت البرق والرعد، عطر الجشج كان يملأ المحيط..آه يا ملا على تلك الرائحة الزكية/ – نعم ياحسين، والدتي كانت تمزج اللبن الجاف والبرغل على هيأة كرات، تضعها أمام الشمس، كي تجف تماما، ونأكلها في فصل الشتاء، وبالاخص الأيام التي تهطل فيها الامطار والرياح الشديدة»ص105
الروائي مؤرخا
طالما نتساءل هل يحتاج الروائي الى اضافة أحداث لأعادة تشكيل الاحداث التاريخية لصالح الحبكة الفنية؟ ان ما يهم الروائي هو كيف يؤثر في انسانية القارئ ويثير مشاعره ! فالاحداث التاريخية حينما تكون عند الروائي هي غيرها حينما تكون لدى المؤرخ! وقد تناول الروائي آريان مشكلات جدلية تخص تداخل الولاءات في الحرب العراقية الايرانية ووقوف بعض الاحزاب الاسلامية العراقية في صف ايران ضد العراق! كما تناول بإيقاع سريع غزو الكويت والانتفاضة الشعبانية في الجنوب والتمرد الكردي في الشمال والعلاقة بين التركمان والكرد في طوزخرماتو ، وكذلك سقوط النظام واحتلال العراق واكتشاف المقابر الجماعية والعثور على رفات الملا رامي الذي تم اعدامه ، والقارئ لا يشعر بالمفاجأة لأن هناك اشارة الى قتل الملا رامي بالتعذيب في بداية الرواية فإنتظار زوجته خالدة واشتياق اولاده والبحث عنه من قبل عمه لا توجد فيها اثارة، عدا مصادرة املاكه البيت وقطعة الارض التي لا تحدث الا في حالة صدور الحكم، وهناك اشارة الى بيع بيت الملا بالمزايدة وحينما يتقدم زياد المسيحي – صاحب نادي لبيع الكحول- لشراء البيت ويدفع المقدم لكنه يتراجع عندما يعلم ان الدار مصادرة ( يخرج زياد المسيحي الوصل الذي معه، يمزقه أمام الموظف، يقول قبل أن يستدير ويغادر الغرفة: – دولة تصادر منازل المساكين، لا أتعجب أن تصادر نقودي أيضا) ص139
الخاتمة
توفق الروائي في أختيار نوع التفاصيل التي تكشف عن الانسان العراقي في تلك المدينة ، والمهم هو قدرة الروائي على دمج التفاصيل الانسانية في كيان جديد لا تباعد فيه ولا تنافر بل تفاعل وتماسك! كما ان خلق شخصيات واهمالها لا يكون في صالح السرد، ففي الفصول الاولى تم خلق شخصية (موشي) المسيحي او (طه المسلم) وكذلك آمر الفيلق ولم يظهرا ولو بفقرة بالسرد حتى نهاية الرواية!