شكيب كاظم
تستهويني قراءة كتب المذكرات الشخصية، لما فيها من تجارب حياتية، تزيد حصيلة القارئ وغلّته المعرفية، ولقد لمست أن عديد أصحاب هذه المذكرات، إنما كتبوها بعد مضي وقت طويل على حدوثها، ومثل هذه المذكرات تكون عرضة للوقوع في ما لا يحمد من خلط ولبس، لأن الذاكرة، ذاكرة الإنسان مهما كانت حادة ووقادة، فلا بد للزمن من أن يترك آثاره عليها، في حين أن بعضهم يكتب مذكراته بدفاتر خاصة، أشبه بالمفكرة اليومية، يسجل حوادث أيامه، ومن هؤلاء رئيس الوزراء العراقي الأسبق الفريق طه الهاشمي، الذي نشر مذكراته كما دونها في حينها، إنه يكتب مذكراته من مفكراته، وقد نشرتها دار الطليعة في بيروت، ومن هذا الباب- كذلك- مذكرات القاضي العراقي النزيه، الذي أوصلته نزاهته إلى رئاسة محكمة تمييز العراق سنة ١٩٦٠، إذ ظل مواظبا على كتابة يومياته، وخصص دفترا لكل سنة، حيث بدأ بتدوين هذه اليوميات سنة ١٩٢٠،وحتى وفاته سنة ١٩٨١،وتولى نجله الدكتور وليد محمود خالص تحقيقها ونشرها تحت عنوان (ذاكرة الورق. ستون عاماً من تاريخ العراق الحديث في يوميات محمود خالص).
كما قرأت العديد من مذكرات الأطباء العراقيين، ومنها مذكرات الجراح الشهير وليد شوكة الخيال وعنوانها (ذكريات العمر) وقد نشرها سنة ٢٠٠٩، فضلاً عن مذكرات طبيب الباطنية الأشهر فرحان باقر- رحمه الله- والتي تولت (دار المدى) نشر طبعتها الأولى سنة ٢٠٠٨، وعنوانها (حكيم الحكام.. من قاسم إلى صدام) كذلك مذكرات الطبيب شاكر الجنابي، التي نشرها في نيويورك حيث يقيم، وعنوانها(مقتطفات من الذاكرة) وقد أدرتُ عن الكتب الثلاثة هذه أحاديث نقدية نشرتها الصحف، ولمست أن هذه المذكرات قد استُوحِيت من الذاكرة، أي أنها ما دونت عند حدوثها، وهذا ما لمسته أثناء قراءتي للجزء الأول من كتاب ( حديث الثمانين. سيرة وذكريات) لطبيب الأمراض النسائية الحاذق كمال السامرائي، فضلاً عن الجزأين الثاني والثالث، وعنوان الكتاب مستوحى من مذكرات السياسي العراقي الراحل، ورئيس الوزراء الأسبق في العهد الملكي، ناجي شوكة، إن الدكتور كمال السامرائي يكتب من الذاكرة، وليس من مدونات، وأيقنت من هذا الأمر، وأنا أقرأ الجزء الثالث من مذكراته، إذ يلتقي في إحدى زياراته إلى لندن سنة ١٩٦١، بصديقه طبيب الأمراض النسائية المصري المعروف (نجيب محفوظ) الذي كان يروم نشر مذكراته، فتقدح الفكرة في ذهن الدكتور كمال السامرائي، وعندها يقرر كتابة مذكراته، وهذا ما حصل حقاً، وتولت دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، نشر الجزء الأول منها سنة ١٩٩٤، ويقع في ٣١٠ صفحات، ولأن الذاكرة البشرية نسّاءة- كما قلت آنفا- فقد وردت في الجزء الثالث بعض الهفوات، مما يؤكد أن هذه المذكرات ما كتبت في حينها، بل كان التعويل على الذاكرة.
١- في الصفحة الأربعين من الكتاب، وتحت عنوان فرعي هو (جميلة خان وجميل صدقي الزهاوي) يسرد الطبيب كمال السامرائي، ذكرياته عن لقائه سنة ١٩٦٢، أرملة الشاعر الزهاوي، لكن استقراء لهذه المدونة، يؤكد أن الحوادث هذه ما جرت سنة ١٩٦٢، بل حصلت تحديداً في شهر آب ١٩٥٨، حيث قُدّم أمير اللواء الركن، أبو تيمور غازي الداغستاني- آخر قائد للفرقة الثالثة في العهد الملكي- قدم للمحاكمة أمام المحكمة العسكرية العليا الخاصة، التي شكلت بموجب المرسوم الجمهوري المرقم (١٩) الصادر في ٢٠ من تموز ١٩٥٨، والمعدل بالمرسوم (١٦٤) في ٩من آب١٩٥٨.
٢- في الصفحة الرابعة والخمسين، ولدى حديثه عن زيارته للقاهرة سنة ١٩٦٢، قال» فندق شبرد القائم أمامنا الآن حديث الهندسة والبناء (..) وقد بني على أنقاض شبرد الأول الذي أحرقته النيران أيام الشغب الذي حصل في أول ثورة ١٩٥٢…».
قلت: إن حوادث الشغب التي حدثت في القاهرة، وامتدت إلى مناطق أخرى من مصر، والتي أدت إلى حرائق هائلة في البنايات والمراكز الحكومية والأهلية، وخسائر مادية باهظة، وهو ما أطلق عليه المؤرخون تسمية (حريق القاهرة الكبير)، إنما حدثت في شهر كانون الثاني ١٩٥٢، وتوسعت لتشمل ثكنات الجيش البريطاني في منطقة قناة السويس، وهذه الحوادث وانشغال الملك فؤاد بالتشكيلات الوزارية التي سرعان ما تنهار، كانت عاملاً مساعداً لقيام الضباط بانقلابهم العسكري ضد حكم الملك فاروق بن فؤاد في ٢٣من تموز ١٩٥٢.
٣- في الصفحة ستين، وتحت عنوان فرعي:» عضو في مجلس رئاسة الجامعة ٣/ تشرين الثاني ١٩٦٣، يحدثنا المؤلف عن وقائع جلسة من جلسات مجلس جامعة بغداد، بعد أن رشحته الكلية الطبية ليمثلها في مجلس الجامعة.
قلت: إن كل الأسماء التي وردت في الفقرة هذه كانت قد غادرت مراكزها الوظيفية قبل التاريخ المذكور، إذ كان فيلسوف التاريخ العربي الإسلامي الدكتور عبد العزيز الدوري، رئيسا لجامعة بغداد في ذلك الوقت.
لعل الاجتماع قد حصل في سنة سابقة ١٩٦٢،١٩٦١ مثلا.
٤-في الصفحة التاسعة والثمانين من الكتاب وتحت عنوان» الامتحانات في كلية طب الموصل» قال الطبيب الشهير كمال السامرائي ما نصه: «في شهر حزيران ١٩٦٤، طلبت كلية طب بغداد، انتداب طبيبين في كل من الأمراض الباطنية والأمراض الجراحية والأمراض النسائية والتوليد، للمشاركة في امتحانات الصف المنتهي بكلية طب الموصل…».
قلت: إن أول دورة انتظمت للدراسة في كلية طب الموصل، كانت في السنة الدراسية ١٩٦١-١٩٦٢، وكانت هذه الكلية نواة لجامعة الموصل، وأول عميد لها هو الأستاذ الطبيب النطاسي البارع محمود الجليلي- رحمه الله- إزاء هذا تكون أول دورة تخرجت في كلية طب الموصل سنة ١٩٦٧،وليس ١٩٦٤، وتحضرني هنا قضية علمية مهمة، ما أجدر الأجيال الجديدة أن تتعرف إليها، أو عليها في احترام العلم وتقديسه، وسيادة القانون وهيبة الجامعة، حدث أن نشبت حرب حزيران سنة ١٩٦٧، ضحى الإثنين الخامس منه، والطلبة يؤدون الامتحان النهائي، وما أن سمعوا بالعدوان الصهيوني، حتى ثارت حماستهم وغادروا قاعات الامتحان للتظاهر وللتنديد بالعدوان.
العالم الجليل محمود الجليلي، عد الذي حصل انتهاكاً لقدسية العلم والدرس، ومن ترك قاعة الامتحان راسباً في ذلك الدرس، وما تراجع عن قراره حتى بعد أن رفع الطلاب الأمر إلى رئاسة الجمهورية، مؤكداً أن العلم علم، والسياسة سياسة ولا يجوز الخلط بينهما، وما تدخل الرئيس المهذب أبو قيس، عبد الرحمن محمد عارف في الأمر احتراماً للجليلي وللعلم.
٥- وفي الصفحة مئة وثلاثين وتحت عنوان (الأستاذ هاشم الوِتري وقاسم الرجب) يذكر طبيب الأمراض النسائية الحاذق كمال السامرائي، أن صديقه قاسم محمد الرجب، صاحب مكتبة المثنى العريقة، قد زاره في داره يوم الجمعة ٦ تشرين الأول ١٩٦٥، ورجاه أن يتوسط لدى الدكتور هاشم الوِتري، كي يعيره كتاب (القانون في الطب) لابن سينا لغرض طبعه بالأوفست.
قلت: لقد توفي الطبيب هاشم الوِتري الذي كان عميدا للكلية الطبية الملكية في الثاني عشر من كانون الثاني ١٩٦١، أي ما كان حيا في السنة التي يذكرها السامرائي، وهو الشهر الذي توفي فيه النحات الفنان جواد سليم، الذي خلد ذكراه بنصب الحرية في الباب الشرقي من بغداد، وتحضرني هنا الخريدة الفريدة التي صاغ أبياتها أبو فرات الجواهري الكبير، موّشِحا بها صدر الوِتري، في شهر حزيران ١٩٤٩، لمناسبة انتخاب الدكتور هاشم الوِتري، عضو شرف، أو عضوا شرفا في الجمعية الطبية الملكية البريطانية، ولهذه القصيدة الجواهرية العصماء قصة طويلة- ليس هذا أوان شرحها- بدأها أبو فرات صادحا.
إيه (عميد الدار) شكوى صاحب– طفحت لواعجه فناجى صاحبا
يتبجحون بأن موجا طاغيا– سدوا عليه منافذا ومساربا
أنا حتفهم ألج البيوت عليهم– أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
إيه (عميد الدار) كل لئيمة– لا بد واجدة لئيما صاحبا
لا بد هاشم والزمان كما ترى– يجري مع الصفو الزلال شوائبا
حاشية.
الحديث الذي قرأته في جلسة الاستذكار للطبيب الراحل كمال السامرائي، التي أقامها بيت المدى للثقافة والفنون، في مقره بشارع المتنبي ضحى يوم الجمعة ١١ من كانون الثاني ٢٠١٩ وأدارها الباحث رفعة عبد الرزاق محمد، وتحدث فيها تباعا: شكيب كاظم والباحث معن حمدان، والباحث زين النقشبندي.