علاء حمد
النصّ المقروء والنصّ المكتوب
من خلال مبدأ كلّ ماتعنيه الذات الحقيقية، تكتبه، ومن هنا نستطيع الدخول إلى عنصر المقروء الذاتي، وعنصر المقروء الكتابي، وكذلك عنصر الكتابة من خلال آلية الكتابة الشعرية؛ لذلك فسوف نبتعد قليلا عن الوعي المباشر، وفي نفس الوقت نلتزم بالوعي اللغوي، حيث أن عنصر المقروء يحتاج إلى وعي لغوي لتحضيره في فعل الكتابة. وفي نهاية المطاف نفسه عنصر المقروء عندما يتحول إلى عنصر كتابي، فإنه سيقرأ، وفي هذه الحالة يتميز بعدة اتجاهات، الاتجاه المقروء الذاتي، التحضير من خلاله لعنصر الكتابة، واتجاه المقروء الكتابي، الانتهاء من العنصر الكتابي.
إذا تطرقنا عن الكلام، فانه الكلام المنقول إلى الكتابة، وكل كتابة ترسم بالكلمات، والكلمات دالة في المنظور الكتابي؛ وبكل تأكيد عندما تكون الكتابة بوجهة شعرية، فإنها تنتقل إلى التأويل الفلسفي، وذلك بسبب العلاقة اللغوية مع المنظور الفلسفي؛ وعندما تكون الكتابة مرسومة من كلمات فأن كلّ منها دال ومدلول. ولكن هل يقرأ الكلام قبل الكتابة، أم يقرأ بعد الكتابة، فالكلام الذي نقصده ليس العنصر المقروء في الذات الحقيقية على وجه الدقة، وإنما الوجه المنقول، وربما يكون من الآخر أو من بيئة الشاعر أو من الشاعر نفسه، الكلام إذن هو ما يعنيه صاحب الكلام، وليس بدقة القول المنقول، ومن خلال فعل الكتابة تتحول ماهية الكلام، من كلام متداول إلى كتابة فنية لها صيغتها ومخاتلاتها التأثيرية في الكتابة الشعرية. (( أتخيل، أنّ كلا من الاستاذ، والمحاضر، والواعض غالبا مايرى في كلماته تجربة مورست، لأن الجمل الحية حينما كان يكتبها، تصبح ميتة حين يقرؤها. لابدّ له إذاً، من قراءتها كما لو انها لاتزال حيّة، وهو مايتطلب منه جهدا لايطاق يدفعه إلى الشعور بعدم جدواها. لنفترض أنه نجح في خداع الآخرين، لكنه لا يستطيع خداع نفسه. إذ يتركز انتباهه واهتمامه على التواصل، وليس على عمليات الإدراك entendement التي تولّده إن لم يكن قادرا على خلقه. عمليتا القراءة والكتابة مختلفتان من ناحية النشوء، ولسنا نرى طريقة لقياس مزاياهما وعيوبهما. ص 201 – اللسانيات والفلسفة – إيتين جلسون – ترجمة: د. قاسم المقداد ))..
الانتقال الأول من المقروء كنصّ غير جاهز، وإلى المقروء كنصّ جاهز، فالأول قيد الخلق والتأسيس، والثاني قيد التشييد والقراءة، ونستنتج من الأول، أن الشاعر بحالة انفعالية، ولكن تطرأ بعض المخاوف في حالة الانفعال الذاتي الحاد، ومن هذه المخاوف تبعثر المقروء والانتقال إلى الكتابة مباشرة، حيث أن النتائج ستكون سلبية في حالة الخلق النصّي، بينما تبقى الكتابة مقروءة من طرف واحد وهي الذات المبعثرة، ومن الصعب أن يجد الشاعر مايقابل كتابته بالنسبة للمتلقي. وفي الحالة الثانية أن يرسم الشاعر خياله كنصّ مقروء، وهذا مايفسره عبر الكلمات المركبة التي لابدّ منها ولابدّ أن يتعاطى مع الجمل والعبارات التي جهزها كديمومة من المضامين المؤدية إلى المعاني التأويلية. سنذهب مع بعض النقاط المهمة التي تخص النصّ المقروء والنص المكتوب عبر الدال والمدلول وثقافتهما في النصّ الشعري الحديث، حيث أنهما يشكلان دليلا لغويا لاقتحام النصّ المقروء قبيل الكتابة.
عاطفة المقروء:
ماهي عاطفة المقروء، هل يشكل النصّ المقروء عاطفة في التشكيل اللغوي؛ أم أن الكتابة التصقت بالمقروء لكي تجني ما بوسعها من عواطف كتابية ؟؟
الدخول إلى عاطفة المقروء، كالدخول إلى الذات المحبوسة والتي لاتعرف كيفية الخروج من سجنها، لذلك تتكرر لدى الشاعر بعض الكلمات والعبارات المشتركة، والتي تتكرر لدى غيره أيضا، علما أنه يتفق تماما ما يخلقه نوعا من الإبداع. والعاطفة هي الميول إلى الكلمات والعبارات والجمل الجاهزة المكررة بالتشابه لدى العديد من الشعراء، وقد تمّ استخدام التعبيرية بدلا من المحاكاة، وههما نظريتان قديمتان، فالمحاكات التي جاء بها أفلاطون وجسدها أرسطو في كتاب « فن الشعر « لذلك أخذت النظرية التعبيرية مكانها بعد الثورة الفرنسية، وذلك فقد اتخذت النظرية المشاعر والشعور بإنتاج النصّ الشعري، وأوهموا المتلقي بأن العواطف والمشاعر هي التي تعبر عما يدور في الداخل الذاتي، فيتعاطف الشاعر التأسيسي مع هذه المكررات والتي لاتجدي نفعا في الخلق النصي، فنعتبرها خاصية خارجة عن الخلق الجديد والذي يمثل الإبداع دون الميول إلى معجم المكررات الواردة في البنك المشاع.
تقودنا نظرية التعبير إلى العواطف والمشاعر الجياشة، وقد اعتمدت على بعض سمات نظرية المحاكاة التي جاء بها افلاطون، وجسدها أرسطو، فالحبكة والشكل، لاتفارقان النظرية في فن الشعر وتأسيسه، وبذلك فقد أوجدوا الوحي الفني ( والذي كان بديلا للحظة الشعرية -الآن وزمنيتها – )؛ يقول الدكتور شكري عزيز ماضي حول نظرية التعبير(( الأدب تعبير عن الذات، أي تعبير عن العواطف والمشاعر، والأدب علم المشاعر والأحاسيس، القلب هو ضوء الحقيقة « لا العقل «. أما مهمة الأدب ووظيفته فإنها تتمثل في إثارة الانفعالات والعواطف، وحين يتخذ الحبّ موضوعا له فإنّ هذا الموضوع ينبغي أن يثير الحبّ في النفس « نفس القارئ « أما تصوير عوائق المحبين مثلا فهي من مهمة الأدب الكلاسيكي في نظرية الأدب – 53 – الدكتور شكري عزيز ماضي)).. وقد تكلمت نظرية التعبير في بداية انتشارها حول الذات وكيفية تتحول الذات إلى موضوع، بينما أكد النقاد في زمننا الحاضر بأن المعنى هو الذي يتحول إلى موضوع، وأكدت السريالية بأن المعاني تعوم حول الذات، والذات ماعليها إلا أن تختار أحد هذه العوالم من المعاني. وكانت العواطف هي المثيرة في نظرية التعبير متجاوزة الصور الرمزية والتجريدية وإلى العديد من الصور الشعرية؛ إلى أن ظهرت نظرية الخيال والتي جاء بها ( صموئيل كولوردج Samuel Cooleridge)، واعتبر نظرية الخيال ملكة. نستنتج من كلّ هذا على أن النظريات التي ظهرت قبل نظرية الخلق ونظرية الخيال، تم تجاوزها بواسطة هاتين النظريتين، وخصوصا في الشعر العربي الحديث، فالتنقيب الذي يرغب به المتلقي، هو أين يقف من كلّ هذه النظريات، وكيفية الكتابة ومفهوم الكتابة أيضا، وخصوصا نحن بعصر توفرت به معظم تقنيات الكتابة الشعرية. ويرى هيغل ( 1770 – 1831 )، (( إنّ مصدر الفنّ هو الخبرة الخاصة وماهية الفن مظهر حسي للحقيقة ومهمته أرفع صور التعبير البشري عن هذه الحقيقة. ويضع هيغل الإبداع أساسا لفلسفة الفنّ أي أنه يفسر الفنّ من زاوية المبدع الفنان. كما يرى أنّ الفنان يدرك الحقيقة وهي مصورة محسوسة « لا بشكل حسي ولا بشكل عقلي «. فالعنصر الحسي يحرك طاقة الخيال لدى الفنان وبعمل الفنان يدرك الفنان الحقيقة لا كموضوع ولا كفكرة وإنما يدركها في صورة، فالفنّ إدراك خاص للحقيقة. المصدر السابق – ص 52 – 53))..