إلياس الطريبق
تعد مشكلة التجنيس من المشكلات المؤرقة في أدبنا العربي المعاصر. ومع تزايد الاهتمام بأدب الأقليات، والأجناس الصغرى في مقابل الأجناس الكبرى المعروفة، يحضر أدب المنفى بوصفه أدب العصر الذي تفرضه سياقات خاصة أخذت تطفو على السطح كتنامي الهجرات الجماعية للشعوب، بسبب ظروف الحرب أو بسبب اختلاف الرؤى السياسية والإيديولوجية، وما يتولد عن ذلك من الرغبة في التحرر والانعتاق من بوتقة التضييق وشبح التسلط.
قبل ذلك ماذا يقصد بأدب المنفى؟ ثانيا ما الفرق بينه وبين أدب المهجر وما هي الشروط التي تكفل لأدب المنفى التحقق في شكل جنس أدبي خاص له معاييره الموضوعية والفنية التي يعرف بها؟ ثم ألا تكون في الأصل مشكلة التجنيس في أدب المنفى هي مشكلة الأجناس ذاتها، إذا ما نظرنا إلى أن الأجناس الأدبية الكبرى مثل، الشعر، والرواية، والرحلة أجناس تحَقُّقِ هذا الأدب بامتياز؟
يقترح الناقد الفرنسي جورج شتاينر George Steiner في أطروحته إنشاء جنس أدبي خاص على غرار الأجناس الأدبية الأخرى مجاله أدب المنفى في القرن العشرين؛ أدب يكتبه المنفيون في سياق وظروف منفاهم، وما يفرض من توالد مشاعر الغربة في ارتباطها بالمكان وجماليات السفر والحنين إلى الوطن، وهاجس الإبعاد والابتعاد بما هو تجربة جمالية محورها اللغة والوطن والزمان والمكان، بتصور الناقدة الأمريكية صوفيا ماكلينين Sophia maklenin في نظريتها حول جدلية المنفى.
نشأ أدب المهجر في سياق عصر النهضة (أواخر القرن 19) وأنتج أدبا مهما خلد اسمه في ذاكرة الأدب العربي الحديث مع شعراء أمثال إيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران وأمين الريحاني، وإذا كان الدافع هنا وراء الهجرة هو الرغبة في تحسين الأوضاع المعيشة للمبدع فإنه بالنسبة إلى أدب المنفى الأمر مغاير، حيث أصبح موضوع الهجرة موضوعا إجباريا يرزح بثقله تحت وطآت الأزمات العرقية والدينية أو تسلط الرقابة وجحيم الحروب. لكن هذا لا يعني «أن المنفى وحياة المنفى هو ذلك الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الأصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي، إنه حالة فقدان مُبرَم يمكن له أن يتحول بسهولة إلى حافز قوي بل ومُخْصِب من حوافز الثقافة الحديثة» كما يقول إدوارد سعيد.
يفهم من هذا التحول أن أدب المنفى ظل على الدوام أدب الأقليات وأدب “الأجناس الهامشية”، يكمن الاختلاف فقط في الصيغة التي يظهر بها، في الظروف والسياقات التي تتحكم في ظهوره، فهي إما سياسية مرتبطة بالحريات والنزوع إلى التخَفُّفِ من معيقات الإبداع الفني كالحاصل في تجربة ما يعرف بشعراء الشتات الفلسطينيين على رأسهم محمود درويش، أو اقتصادية واجتماعية، وغالبا ما تكون اختيارية نابعة من تصور خاص وشخصي للإبداع وللمكان وللهوية والأشياء عموما.
إن أدب المنفى هو أدب التمزق، وتجربة المنفى لا تقل وطأتها عن محنة الطرد والعقاب بالتهجير القسري إذ؛ أنه من أكثر المصائر إثارة للحزن عند إدوارد سعيد، الذي يرى أن تجربة المنفى بالرغم مما فيها من ويلات الأسى ومكابدة الألم، يصبح بمقدور المبدع تحويل هذا الواقع لصالحه والإعلاء من شأنه، ثم تطويعه ليصير تجربة جمالية مشرقة، تمتح من مساحات الضوء التي تلقيها ظلال الاغتراب والحنين إلى الوطن، لتسهم في إنشاء أدب محوره الذاتُ والوجود الإنساني.
وهذا ما تشهد به طلليات الشعر الجاهلي على سبيل المثال، وهي تتغنى بأهداب المكان المنفلت إلا من قبضتي الذاكرة والوجدان، وقصائد الشعراء العباسيين و الأمويين أمثال أبي فراس الحمداني، والمتنبي، وأبي تمام، وشعراء الأندلس المتأخرين وأشهرهم أبو البقاء الرُّنْديِّ في مرثيته الخالدة التي سبقت سقوط غرناطة، و ضياع فردوس من فراديس الرقعة الجغرافية الإسلامية الواسعة. كما شهد أيضا على نشوء آداب جديدة ذات سياقات مختلفة كأدب الزنوج والأقليات القومية مثل الأفارقة في أمريكا، أو المغاربيين في أوروبا، و الهنود والباكستان في بريطانيا.
مصطلح أدب المنفى مصطلح حديث، ينم عن اتجاه ذي منحى خاص في أدبنا المعاصر لم يتشكل بعد بالشكل الازم الذي يخول له أن يتبوأ مكانة أجناسية ذات قيم و معايير ثابتة في النقد الحديث سيراً على خطى أجناس مماثلة، اللهم إلا إذا استثنيا كونه أدبا موضوعاتيا أي أدبٌ يشتغل وفق ثيمات و موضوعات مخصوصة تعرف ارتباطا سريريا بمشكلات الذات تجاه الوطن و الأمة، أو الذات في مقابل الحرية و السلطة، ومشكلات الهوية المتمثلة بالأساس في اللغة، والدين، و العرق، تتلخص جميعها تحت ما يسمى بموضوعة أدب المنفى أو أدب الاغتراب و أدب المهجر.
لعل هذا التداخل المصطلحي نفسَهُ دليل على التباس مفهوم أدب المنفى، وسمة من سمات افتقاده إلى جهاز نظري ومفاهيمي يؤطره من الناحية الشكلية، ليصبح قادراً على تخطي العائق الأجناسي بعيداً عن كونه مجرد موضوعة أو قضية، لا يتحدد هذا النوع من الكتابة دون تبنيها، أو الالتزام بها التزاما كما هو الشأن مع أدب السجون أو أدب المقاومة والتحرير.
بما أن أدب المنفى هو أدب الذات المنفية التي تحمل في طياتها قضية المنفى بإشكالاتها المتعددة فإن التعدد من جهته حاضر في نمط الكتابة وفي التشكيل الخطابي الذي يتخذ منه هذا النوع الأدبي سبيلا للتحقق والبروز؛ فهو يلبس تارة ثوب الشعر والقصيدة بجميع مرجعياتها، كما يلبس ثوب الرواية والمسرحية واليوميات وأدب الرحلة. وبالتالي فإن هذا التنويع الأجناسي يخدم الأطروحة القائلة إن أدب المنفى هو ثيمة من ثيمات الكتابة، حضوره أقرب ما يكون إلى الظاهرة الأدبية منه إلى الجنس الأدبي، حيث تطفو ثم تختفي وذلك بالنظر إلى السياقات المتعلقة بظروف إنتاجها و نقصد هنا التحولات الاقتصادية و السياسية التي يشهدها العالم، وتفرز لنا ما يمكن أن نطلق عليه “آدابا سياقية” لا يعني ذلك بالضرورة انحسارها في بؤرة معينة من التاريخ و التلقي بقدر ما يعني أنها مفتاح للتطور نحو مفهوم كوسموبوليتي للأدب، يعيد تشكيل العالم وفق رؤية شاملة يطبعها التنوع و الانفتاح والتسامح، و هو ما يعد اليوم وثيق الصلة بأدب المنفى كأدب من آداب ما بعد الحداثة في القرن الواحد و الشعرين.
يظل أدب المنفى جزءًا لا يتجزأ من كينونة الأدب العربي المعاصر، لما يتميز به من قدرات جمالية و طاقات إبداعية تنضح بالحركية و تنعم بالحيوية، استطاع أن ينتج لنا آدابا عالمية انتزعت الاعتراف الدولي و المؤسساتي في علاقة الإنسان بالوجود و العالم؛ على سبيل المثال لا الحصر تجربة الكاتبة و الروائية هدى بركات مؤخراً و حصولها على الجائزة العالمية للرواية عن كتابها “بريد الليل” الذي يعد بحق أيقونة مستجدة في أدب المنفى أوصلت من خلاله رسائل المنفيين و صوتهم الداخلي إلى العالم و العالم العربي بأسره، أو كما فعلت زميلتها الكاتبة البولونية أولغا توكارتشوك الحاصلة على جائزة نوبل في الآداب عن روايتها “رحَّالَة” التي تلخص فلسفة الذات في علاقتها بالمكان و بالتنقل عبر مجموعة من الثنائيات أبرزها الحركة السكون، الوعي اللاوعي، ثم الحياة و الموت.
في نهاية المطاف نستطيع القول إن المنفى هو مِنحةٌ يتلقاها المبدع بهدف إثراء التجربة الجمالية لديه، وهو ثيمة من الثيمات لا ينبغي أن تتحول الكتابة فيه إلى موضة من موضات العصر، وإنما يجب الانطلاق من عمق الإحساس بالتجربة وبصدق معاينتها لفهم أمثل للظاهرة وتبنيها تبنيا كاملا يسعف في الغوص في قلب إشكالاتها الحقيقية التي يطرحها هذا الأدب وتواجه المبدع بشكل ملح في محنته/ منحته حول تراجيدية المنفى وأدبيته.
*كاتب مغربي