محمد زكي ابراهيم
ربما لم يعد كثير من المهاجرين العرب يشعرون بالانتماء إلى الوطن الأم، بعد أن طال بهم المقام في بلاد الغرب، واكتسبوا حقوق الجنسية فيها. وبعد أن ولدت أجيال جديدة منهم بعيداً عن أرض الآباء والأجداد. لكنهم مازالوا يؤثرون العيش في أحياء خاصة بهم، ويمارسون حياة لا تشبه في شئ حياة السكان الآخرين.
وإذا ما علمنا أن هناك جاليات كثيرة تعيش في هذه البلدان أدركنا حجم التنوع الحاصل فيها، وخطر تحولها إلى أقليات منعزلة في المستقبل. وقد عمدت بعض البلدان إلى الاعتراف بحقوق الأقليات المهاجرة في إحياء ثقافاتها الخاصة، مثل بريطانيا والولايات المتحدة. في ما انتهجت بلدان أخرى سياسة المساواة، التي لا تعترف بهذه الحقوق، مثل فرنسا. أما الأقليات الأخرى التي تستوطن هذه الدول، من بقايا الإمبراطوريات السابقة التي حكمت أوربا في الماضي القريب، فإنها تبدو عصية على الحل. وكثير منها مازال يتحدث بلغته الخاصة ويفخر بانتمائه الأصلي. ويبدو خطر هذه الثقافات واضحاً عند نشوب النزاعات، مثلما حدث بين روسيا وأوكرانيا قبل سنوات.
في البلاد العربية لا توجد أقليات مهاجرة، بل “أقليات أرض الوطن” التي استوطنت البلاد منذ عصور طويلة. ولدى هذه الأقليات طموحات واسعة، تجعلها تتطلع دائماً إلى ما وراء الحدود. وقد استشعرت الحكومات التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية هذا الخطر، فانتهجت سياسات صارمة في التعليم والإدارة ووسائل الإعلام. وقامت بخلق جيل موال يؤمن بالوحدة الوطنية ويضعها فوق كل اعتبار. غير أن رياح التغيير كانت أقوى من هذه السياسات، ففضلت الجموع الشعبية الذهاب إلى الخيار الآخر الغربي، لأنه يوفر بنظرها كل ما تحتاجه من حرية ورفاهية وقوة. وبدأت مرحلة جديدة من الحكومات متعددة الأحزاب والمكونات والاتجاهات.
والواقع أن إطلاق الحريات الذي رافق الموجة الجديدة من الأنظمة العربية دون أن ترافقه تنمية حقيقية قادرة على استيعاب الطاقات الشبابية، هو مغامرة غير محسوبة العواقب. ولا عجب إن كانت قد تطورت إلى فوضى وانفلات أمني وأعمال شغب. ويبدو الفرد العربي الآن حائراً بين نظم استبدادية صارمة توفر له فرص عمل كافية، ونظم تمثيلية تعجز عن توزيع الثروة بشكل كاف.
كما أن أقليات أرض الوطن هذه أخذت تتطلع إلى وضع جديد. وباتت تحلم بالانفصال عن الشركاء الآخرين. وقد دخل في روعها أنها تستطيع لوحدها، أن تتمتع بأكبر قدر من المال والأمان ويسر العيش. فالسبب الرئيس للفقر بنظرها هم “الآخرون”.
لا يمكن للبلاد أن تنجو من الانقسام دون أن تتبنى قيماً اجتماعية فاعلة، يجري نشرها على نطاق واسع في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية والمدنية. فالثقافة الآن هي الوسيلة الأقوى لمنع أي تشظ تتعرض له بسبب التنوع العرقي أو اللغوي. وعلى الدول والحكومات أن تختار بين نزاعات مسلحة لا تخلف سوى الموت والدمار، وبين سياسات ثقافية جادة، تمنع هذا النزيف، وتحفظ وحدة البلاد.