كنت أعتقد مثل الكثيرين أن عصر العلم والمعلومات والتعليم سوف يزيح مظاهر الجهل والدجل والخزعبلات،لكن هناك ظواهر عجيبة تصدمنا يومياً تناقض الواقع المفترض، من بينها رواج بضاعة النصب والاحتيال،ومن أبرزها انتشار مشايخ الفضائيات والفلكيات والتوقعات،وقد يتمادى بعضهم أو بعضهن فيدّعي النبوة وعلم الغيب وفك السحر ومعالجة الأمراض،وقد يمنح أحدهم نفسه لقب دكتور،ولكن أن يعلن شخص بأنه الإله الأرضي، وأن تصدقه الملايين من الناس الفقراء، فتلك مهزلة خارج حدود العقل والمنطق والعصر!
شاهدت عبر مواقع التواصل الاجتماعي فلماً يظهر ذلك المحتال الهندي(ساتيا جويا ناريانا) وهو يسير وسط مريديه الكثيرين،يوزع عليهم ترابه المقدس،ثم يعطس فتنطلق من فمه بيضات من الذهب الخالص يمنحها بسخاء لأتباعه الفقراء فتزداد شعبيته ويتوسع نفوذه وينتشر صيته،ويرسخ في أذهان الحشود من حوله، أن الله جل جلاله قد تجسد في شخصية ذلك الرجل الذي يمشي على الأرض ويوزع الهدايا ويفعل المعجزات!
قد يبدو الأمر مقبولاً لو ظهر هذا الشخص قبل عصور التوحيد والديانات السماوية،منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام،لكن أن يزعم أحدهم أن الإله قد نزل من السماء إلى الأرض في القرن الحادي والعشرين،ويصدقه بعض الناس،فتلك ظاهرة تسقط دونها كل نظريات العلوم الطبيعية والإنسانية،وتجعل البشرية تعود إلى عصر ما قبل الجاهلية!
لنتأمل في هذه المسرحية الغريبة ونستخلص منها الدروس، فهي ليست جديدة،وقد سبقتها مقدمات تمهيدية، لعل أبرزها ظهور عشرات المشعوذين، عبر وسائل الإعلام واستطاعتهم خداع الملايين وجمع الأموال الطائلة،ومن ثم شراء ذمم المهرجين والمنافقين،واكتمال دائرة الاحتيال من خلال الاعتراف شبه الرسمي وغياب القانون الذي يفترض أن يحمي الناس من المحتالين،والأخطر من ذلك أن يتوسع نفوذ هؤلاء مستقبلاً، وقد يخترقون المنظومة السياسية من خلال بوابات الفساد،فيعلن بعضهم عن تأسيس أحزاب وخوض المنافسة الديمقراطية عبر الانتخابات المزورة!
عندما يمتلك أحد الدجالين السلطة والمال والسلاح والإعلام وحشود من الجهلة الرعاع فإنه لا يستطيع ان يعلن نفسه نبياً او ولياً،فحسب بل يمكنه أن يتقمص دور الإله المقدس!
الرجل الهندي اختصر الطريق فلم يدخل الانتخابات ولم يشهر السلاح، لكنه ذهب مباشرة إلى الفقراء المساكين اليائسين وأخبرهم:” ما دمتم تدعون الله ليلاً ونهاراً فقد جئتكم بنفسي وسوف أعيش بينكم وأحل جميع مشاكلكم،فقد حضرت بينكم وعليكم أن تؤمنوا بي، وإلا فإنكم سوف تخسرون عطاياي”!
خداع الجهلة الفقراء المحرومين عبر الوعود الوردية والأمل في المستقبل، كان وما يزال وسيظل الخطاب الأكثر تأثيراً وانتشاراً وتصديقاً،في البيئة المهيأة لاحتضان مظاهر الشعوذة،ما دام هناك خوف ويأس وفشل وفساد،وسوف يواجه العقلاء الصادقون الكثير من المحن والصعاب والعداوة، مثلما عاش جميع الأنبياء في العصور الغابرة، بين قومهم، مضطهدون لأنهم كانوا يدعون إلى الخير والفضيلة في حين تسير عامة الناس وراء من يُضحكهم أو يضحك عليهم ويخدعهم!
د. محمد فلحي